في باريس، حيث تتلألأ أنوار الشانزليزيه كأنها خرزات على معصم الزمن، وحيث تختلط رياح الأطلس بعطر المدينة التي لا تنام، شهدت جالية المغرب احتفالية إستثنائية… إحتفالية بدت كأنها خارجة من كتاب الأساطير الكبرى، ممهورة بأختام التاريخ وروح الوطن، بمناسبة الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء والذكرى السبعين لاستقلال المملكة. في عرسٍ وطني يرفل في البهاء، تتجاور فيه الرموز، وتتمازج فيه الأصوات، ويتحول فيه الوطن إلى كائن من نور يرفرف فوق الرؤوس، لم يكن اليوم عاديا في دار المغرب فقد بدا المكان وكأنه قصر من ضوء، ترفرف في أرجائه أرواح الأجداد وتتناثر فيه كلمات نشيد وطني يتجدد في الصدور كلما لامست راية المغرب السماء. هناك، عند بوابة القاعة، كان الزمن يتقاطر ببطء، كأنه يتهيأ للدخول في عرس وطنيّ تتلاحم فيه الذاكرة مع الحلم.
افتتحت القنصل، حبيبة الزموري، هذه الاحتفالية بخطاب يشبه النشيد أكثر مما يشبه الكلمات؛ خطاب حمل بين طياته هدوء الدبلوماسية، وجلال التاريخ، وانسياب مشاعر لا تقال إلا حين يستيقظ الوطن في القلب. تحدثت عن المسيرة الخضراء كأنها أسطورة خرجت من رمال الصحراء لتصنع ملحمة شعب بأكمله، وعن الاستقلال الذي لم يكن مجرد حدث سياسي، بل ميلاد روح جديدة في جسد أمة لا تنحني. لم تكن كلماتها خطابا دبلوماسيا عابرا، بل كانت مقطوعة من حرارة الانتماء، تبسط يدها على الذاكرة وتوقظ ملامح وطن لا يشيخ مهما امتدت المسافات. ارتفعت نبرتها كأن الزمن كله أعارها صوتا واحدا، صوتا يعرف كيف يحول الذكرى إلى ولادة جديدة.
ثم تقدم محمد امريزيقة، العارف بأسرار الأزمنة، فحمل الحضور إلى تخوم التاريخ، إلى اللحظات التي تصنع فيها الملاحم دون ضجيج، وإلى الساعات التي كان فيها الشعب يكتب بإرادته مسار وطن يتجاوز حدوده ليمتد في الخيال. كان حديثه كأن الرمال نفسها تخرج من صمتها لتتحدث، وكأن الأطلس يزيح عن كتفيه الثلج ليكشف عن نبضه العميق. وحين استعاد مشاهد المسيرة، بدا الحضور وكأنهم يرون آلاف المتطوعين من جديد، يمضون إلى الجنوب كمن يمضي نحو وعدٍ لا. بدا حديثه كأنه رحلة في زخم الأزمنة، تعبر من هنا إلى هناك، من الذاكرة الفردية إلى الذاكرة الجماعية، من الصمت إلى العظمة.
وتوالت الشهادات من الذين شاركوا في تلك الملحمة، رجال ونساء ما زالت في أعينهم شرارة تلك الأيام، وما زالت في أصواتهم رعدة الرمال تحت وقع الخطى. كانوا يتحدثون ببطء، كأنهم يخشون أن يوقظوا في قلوبهم عاصفة من الحنين، وكأنهم يفتحون صندوقا من ذهب لا يلمسه إلا من يعرف ثقل البطولة حين تصبح جزءا من الجسد. فكان صوتهم يختلط فيه الفخر بالعاطفة؛ روايات تشبه القصائد، وقصائد تشبه الرمح المغروس في أرض الوطن. كانوا شهودا لا على حدث فقط، بل على ولادة أمة اخترقت الرمال لتكتب مستقبلها.
وجاءت بعد ذلك القراءة الشعرية بصوت زكية لعروسي..قراءة تشق ستائر السكون. إذ صعدت الكاتبة والشاعرة المنصة وهي تحمل بين أناملها حزمة من الضوء والهدهدات الوجدانية. قرأت شعرا كأنه ماء ينساب في عروق الاحتفال. كلماتها تحولت إلى نوارس، تدور في فضاء القاعة، وتعيد رسم خريطة المغرب على السماء بمداد الفخر والمباهاة. كانت اللحظة أشبه بنشيد داخلي يُسمع بالقلب قبل الأذن.
كانت تحمل بين كلماتها لمعانا يشبه زهر الصبار حين يتفتح في صباح نادر. وقفت أمام الحضور كأنها تقرأ من كتاب غير مرئي، كتاب مكتوب بالماء والريح والدمع. انساب شعرها في القاعة مثل موسيقى بعيدة تتذكر نفسها، تطرق الأبواب المغلقة في أرواح الحاضرين، وتعيد رسم الوطن لا على الورق، بل في مجرى الدم.
وعُرض الفيلم الوثائقي عن الصحراء المغربية، فكان كأن الشاشة تنشق لتحرر أرضا تتنفس في الضوء، أرضا يعرفها كل مغربي حتى لو لم يطأ رمالها قط. بدت الصحراء لا كخلفية جغرافية، بل ككائن عتيق ينهض ببطء، يتحدث بلغته القديمة، لغة الشموخ والاتساع والسكينة التي لا يملكها إلا من عرف معنى البقاء.
واختتمت الأمسية بفنون مغربية أعادت صياغة الفرح في أسمى صوره، وبمائدة تفيض بكرم لا يخطئه قلب مغاربي مهما ابتعد. كانت الروائح مثل رسائل من البيوت الأولى، وكانت الأطباق مثل أعراس صغيرة تدور حولها الضحكات، وتذوب فيها المسافات بين باريس والمغرب كأنهما مدينتان تسكنان الذاكرة ذاتها.
في ذلك اليوم لم تكن الاحتفالية مجرد طقس رسمي، بل كانت تجسد الوطن وهو يمد ظله على أبنائه، وطن يرافقهم أينما ذهبوا، يطل عليهم من نافذة الضوء، ويجلس إلى جوارهم حين يشتد الحنين. في باريس، في قلب الغربة المحتشمة، بدا المغرب حاضرا بكامل هيبته، يفتح ذراعيه مثل أم تستعيد أبناءها من تعب الطريق، ويهمس لهم بأن المسيرة ما زالت خضراء، وأن الاستقلال ليس ذكرى، بل نبض يتجدد كلما ارتفعت الراية في السماء.