فكري سوسان: الحسيمة… إقليم يقف على عتبة انتقال جديد

فكري سوسان: الحسيمة… إقليم يقف على عتبة انتقال جديد فكري سوسان

لا يوجد اليوم إقليم مغربي يجمع بهذا الوضوح بين تناقضات التحول الاجتماعي مثل الحسيمة. مدينة الميناء والجبل والذاكرة، تحمل في خلفيتها أحداثاً رسخت صورة قوية في المخيال الوطني، وفي حاضرها اليومي شباب يبحث عن موقع داخل مغرب جديد يتغير بسرعة. هي مساحة يلتقي فيها تاريخ المقاومة والهجرة والبحر، مع أسئلة التنمية الترابية والعدالة المجالية وتوزيع الفرص.

الحسيمة تحمل إرثاً تاريخياً ثقيلاً، من لحظات المواجهة إلى مراحل التوتر الاجتماعي، ومن موجات الهجرة الواسعة نحو أوروبا إلى شعور جزء من الساكنة بأن الإقليم ظل لسنوات على هامش بعض الديناميات الوطنية. في المقابل، تتوفر المنطقة على رأسمال بشري مميز، وجالية قوية بالخارج، وواجهة بحرية واعدة، وريف جبلي غني بالموارد الفلاحية والطبيعية. هذا التعايش بين ذاكرة مثقلة وتطلعات جديدة يجعل الإقليم في وضع انتقالي حساس، يحتاج إلى تدبير ذكي وهادئ.

منذ سنوات، يتحرك الإقليم داخل معادلة معقدة: إمكانات واسعة على مستوى البحر والفلاحة والسياحة والطاقات الشابة، توازيها تحديات بنيوية في التعليم، والصحة، والبنيات التحتية، وفرص الشغل. لهذا تبدو الحسيمة في حاجة إلى قراءة واقعية، بعيدة عن الصور النمطية التي تحصرها في مشاهد الاحتجاج فقط، وبعيدة أيضاً عن خطاب الوعود السهلة. المطلوب اليوم مقاربة ترى الإقليم كما هو: مجالاً مليئاً بالقابلية للنهضة، بشرط وجود رؤية واضحة، وتخطيط منسجم، وقدرة على تحويل الطاقة الاجتماعية المتراكمة إلى مشروع تنموي متماسك.

بهذا الفهم، يمكن للريف الجبلي أن يتحول من منطقة هشاشة إلى مجال إنتاج مستدام، وأن يكون رافعة صامتة، لكنها قوية، لتنمية الإقليم بأكمله.

 

  1. القنب الهندي القانوني… نافذة تاريخية إذا أُحسن استثمارها

يمثل الإطار القانوني الجديد المنظم للاستعمالات المشروعة للقنب الهندي أحد أهم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب خلال العقدين الأخيرين. وفي الحسيمة تحديداً، يكتسب هذا التحول معنى أعمق بكثير من كونه مجرد تقنين لنبتة كانت تُزرع منذ عقود في الظل. هنا، نحن أمام فرصة لإعادة تشكيل الاقتصاد الريفي من جذوره، وتحويل نشاط ظل لعقود محاطاً بالهشاشة والمخاطر إلى رافعة تنموية حقيقية تستند إلى المعرفة والاقتصاد الحديث.

فالإقليم يتوفر على خبرة فلاحية متوارثة في زراعة “البلدية” التي تُعد واحدة من أقدم الأصناف وأكثرها ملاءمة لخصوصيات المناخ الجبلي. جودة هذه النبتة، التي أكسبت الريف سمعة عالمية في السابق، يمكن أن تتحول اليوم إلى عنصر قوة داخل أسواق دولية تبحث عن منتجات أصلية ذات بصمة جينية واضحة. ومع ذلك، فإن الاستثمار في هذه القيمة لا يمكن أن يقوم على الزراعة وحدها، لأن بيع المحصول الخام يُبقي الفلاح في الحلقة الأضعف ويعيد إنتاج نفس الهشاشة القديمة بعد تغيير الغلاف القانوني فقط.

القيمة المضافة الحقيقية تكمن في الصناعة التحويلية، وهي الحلقة التي يمكن أن تنقل الإقليم من اقتصاد زراعي محدود إلى اقتصاد صناعي طبي وغذائي تجاري ذي أفق عالمي. ويشمل هذا التحول أربع واجهات أساسية:

1. استخراج الزيوت الطبية عالية الجودة
زيوت الـCBD والمواد المركزة الأخرى تمثل اليوم سوقاً عالمية بمليارات الدولارات. دخول الحسيمة إلى هذا السوق يتطلب معايير صارمة في التحويل، غرف تعقيم، سلسلة تبريد مناسبة، ومراقبة دقيقة للمواد الفعالة. هذه الصناعة وحدها قادرة على خلق وظائف عالية المهارة، من الكيميائيين إلى التقنيين ومهندسي الجودة.

2. إنتاج مواد أولية للصناعات التجميلية والغذائية
القطاعات التجميلية والغذائية تبحث عن مكونات طبيعية ذات أثر إيجابي على الاستدامة. القنب المحلي، إذا خضع لمعالجة دقيقة، يمكن أن يصبح أساساً لمستحضرات تجميل طبيعية، أو مكملات غذائية أو إضافات غذائية وظيفية. هذا المجال يسمح بتأسيس وحدات صناعية خفيفة، قابلة للتوسع، وذات قدرة استيعابية للشباب الباحثين عن مشاريع صغيرة ومتوسطة.

3. مختبرات للمراقبة والبحث العلمي
أي اقتصاد حديث يعتمد على العلم. وفي مجال حساس كالمنتجات الطبية، لا وجود لمكان للسوق غير المنظمة أو العشوائية. المختبرات المتخصصة في مراقبة الجودة، وتحليل نسب المواد الفعالة، واختبار البكتيريا والسموم، تمنح المصداقية للمنتوج وتفتح له أبواب التصدير. كما أن التعاون مع الجامعات والمراكز البحثية يمكن أن يجعل من الحسيمة مركزاً وطنياً للبحث في النبتات الطبية.

4. تكوين جيل جديد من التقنيين والمهندسين الريفيين
الانتقال إلى اقتصاد صناعي يحتاج إلى موارد بشرية مؤهلة:

تكوين هؤلاء محلياً يخلق دورة اقتصادية كاملة داخل الإقليم، بدل إرسال مهاراته الشابة نحو مدن أخرى أو نحو الهجرة.

هذه الدينامية لن تتحقق دون تحول منهجي: من زراعة تُباع في أكياس صغيرة، إلى سلسلة قيمة كاملة تبدأ بالحقول وتنتهي بالأسواق الدولية. نجاح التجارب العالمية يُظهر أن الإطار القانوني وحده لا يخلق اقتصاداً؛ بل إن الرؤية الواضحة، والاستثمار الذكي، والبحث العلمي، والتكوين المستمر، هي مفاتيح تحويل القنب الهندي من نشاط محدود القيمة إلى قطاع استراتيجي.

والحقيقة أن الحسيمة، بجبالها، وبنيتها الاجتماعية، وخبرة فلاحيها، تمتلك كل الشروط الأساسية لتكون نموذجاً وطنياً في هذا التحول. ما تحتاجه هو الانتقال من مرحلة التراخيص إلى مرحلة المشاريع، ومن مرحلة التحسّب إلى مرحلة استثمار الفرص. فإذا أُحسن استعمال هذه اللحظة التاريخية، يمكن للقنب الهندي الطبي والصناعي أن يتحول إلى قاطرة تنموية تعيد للريف مكانته الاقتصادية وتفتح أمام شبابه آفاقاً جديدة داخل وطنهم، بدل البحث عنها خارجه.

 

  1. التعليم والصحة… أساس الثقة قبل أن يكونا خدمات

حين ينصت المرء لنبض الحسيمة في القرى والمدن، يكتشف أن محور النقاشات اليومية لا يدور حول المشاريع الكبرى أو الأرقام الاقتصادية، بل حول سؤال بسيط لكنه جوهري: هل يشعر المواطن بأن الدولة قريبة منه؟
وهذا الشعور يتكوّن أولاً داخل القسم، وثانياً داخل قاعة العلاج. فالتعليم والصحة ليسا قطاعين إداريين، بل معيار الثقة الأول الذي يقيس الناس من خلاله مدى حضور الدولة وفاعليتها.

في المجال التعليمي، تبدو الصورة واضحة ومقلقة في آن واحد. المدارس الجبلية تواجه نقصاً حاداً في الأطر، وتشتغل في ظروف صعبة، وتستقبل تلاميذاً يقطعون مسافات طويلة في التضاريس الوعرة من أجل الوصول إلى فصول قد تتوفر على مدرس واحد يتقاسم مستويات متعددة. هذه المعادلة تُنهك الطفل والأستاذ معاً، وتخلق بيئة تجعل الانقطاع الدراسي احتمالاً دائماً، خصوصاً لدى الفتيات اللواتي يتأثر حضورهن المدرسي بكل تفاصيل الحياة اليومية: البعد، النقل، الضغط العائلي، وضعف التجهيزات.

غياب نمط مدرسي محفّز يحرم الإقليم من أهم موارده: جيل قادر على المشاركة في الاقتصاد الحديث. وفي منطقة مثل الحسيمة، التي تراهن على قطاعات الصيد والفلاحة الصناعية والسياحة والخدمات، يصبح التعليم ليس وسيلة للترقي الفردي فقط، بل شرطاً لتطور الاقتصاد نفسه. الطفل الذي يغادر المدرسة في سن مبكرة يتحول لاحقاً إلى شاب يبحث عن حلول خارج الإقليم، بينما المدرسة الجيدة تصنع علاقة جديدة بين المواطن ومجتمعه.

أمّا القطاع الصحي، فيعكس بشكل مباشر مستوى العدالة الترابية. المستشفى الإقليمي يعاني من نقص في تخصصات حساسة، والقرى الجبلية تواجه صعوبات في الولوج للعلاج، خصوصاً في الحالات الاستعجالية الليلية التي تتطلب قطع عشرات الكيلومترات بتكلفة باهظة. هذا الواقع لا يهدد صحة الأفراد فقط، بل يولّد شعوراً بالهشاشة وانعدام الأمان، ويجعل حياة السكان مرتبطة بالصدف أكثر مما يجب.

التحديات الصحية ليست مسائل تقنية معزولة، بل تمسّ جوهر العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن. فعندما يتردد شخص مريض قبل التوجه إلى المستشفى لأنه يخشى غياب الطبيب أو طول الانتظار، فهذا يدل على أن علاقة الثقة قد أصابها شرخ عميق. وحين تضطر امرأة من منطقة جبلية إلى قطع رحلة شاقة من أجل تلقي علاج بسيط كان من الممكن توفيره في مركز صحي قريب ومجهز وقادر على تقديم الحد الأدنى من الخدمات، فإن ذلك يكشف فجوة قاسية بين الخطاب حول التنمية وبين الواقع الفعلي للخدمات على الأرض.

أمام هذا الوضع، يتضح أن الاستثمار في الإنسان هو المدخل الحقيقي لكل تحول تنموي. تحسين التعليم يعني خلق موارد بشرية محلية مؤهلة، قادرة على إدارة مشاريع القنب القانوني، والصيد البحري العصري، والسياحة المستدامة، والصناعات الصغيرة المرتبطة بالريف. وتحسين الصحة يعني استقراراً اجتماعياً، وتقوية الروابط بين السكان ومؤسساتهم، وتقليل الهجرة القسرية نحو المدن الكبرى.

الإقليم يملك فرصة لإعادة بناء الثقة عبر خطوات عملية:

هذه الإجراءات تتطلب إرادة أكثر من حاجتها إلى موارد ضخمة. والأهم أنها ترسل رسالة واضحة للسكان: أن الدولة موجودة، وأن الخدمات الأساسية ليست امتيازاً، بل حقاً.

في الحسيمة، يمكن لأي مشروع اقتصادي أن يخلق فرصاً، لكن التعليم والصحة وحدهما قادران على خلق مواطن يشعر بالكرامة وبالانتماء، وهذا هو الشرط الأول لأي نهضة حقيقية.

 

  1.  اقتصاد البحر… قطاع استراتيجي يبحث عن حماية حقيقية

بعد الجبل والهجرة والذاكرة، يبقى البحر العنصر الأكثر تأثيراً في تشكيل اقتصاد الحسيمة. فهو مصدر رزق لآلاف الأسر، وهو الصناعة الأولى التي عرفتها المنطقة قبل القنب وقبل السياحة، وهو المجال الذي تتقاطع فيه المعرفة التقليدية للصيادين مع التحديات البيولوجية الحديثة. ومع ذلك، يواجه هذا القطاع اليوم ضغوطاً متراكمة تهدد استدامته، وتجعل تطويره مسألة تنموية عاجلة لا تفصيلية.

أولى هذه التحديات تأتي من الممارسات غير القانونية التي تُربك السوق وتؤثر في مسارات البيع والتسعير، حيث تتحرك بعض القوارب خارج الضوابط، في غياب مراقبة كافية في نقاط بحرية حساسة. وتنعكس هذه الفوضى على الصياد الصغير الذي يجد نفسه أمام منافسة غير عادلة، تُضعف هامش ربحه وتُهدد بقاء مهنته.

التحدي الثاني بيولوجيّ بامتياز، ويتمثل في الظاهرة المعروفة محلياً بــ«النيكرو»—الدلفين الأسود—الذي يتسبب في خسائر مباشرة للصيادين عبر تمزيق الشباك وإفساد المصطادات. هذه الظاهرة، التي تتفاقم سنوياً، ليست نزوة طبيعية عابرة، بل واقع بيئي يحتاج إلى حلول علمية، تشمل تطوير شباك مقاومة، واستعمال أجهزة طرد صوتية، وتكثيف البحث الأكاديمي حول سلوك هذه الأنواع البحرية.

أما التحدي الثالث فهو ضعف البنية المينائية والخدمات المرتبطة بها: مساحات التخزين، غرف التبريد، أسواق السمك، تجهيزات السلامة البحرية… وهي عناصر أساسية لضمان الجودة والقدرة التنافسية، لكنها ما تزال خارج المستوى المطلوب مقارنة بأقاليم ساحلية أخرى.

كل هذه التحديات تكشف أن القطاع في حاجة إلى سياسة بحرية جديدة، لا مسكنات ظرفية. سياسة تقوم على:

إن مستقبل الصيد في الحسيمة يقوم على تجاوز منطق الجهد الفردي نحو منظومة تجمع بين العلم والإدارة الرشيدة. فالبحر يشكل ركناً أساسياً في الاقتصاد المحلي، وتطويره يتطلب أدوات حديثة في التتبع البيولوجي، وتنظيم السوق، وتجديد الأسطول، وإعادة هيكلة سلاسل القيمة.

بهذا التصور، يصبح إدماج الصيد البحري داخل الرؤية التنموية للحسيمة خطوة تعيد الاعتبار لقطاع تاريخي، وتبني توازناً جديداً بين الجبل والبحر، وبين الفلاحة والصناعة، وبين الاقتصاد التقليدي وامتداداته الحديثة.

 

  1. العزلة الترابية… معضلة الطرق قبل معضلة الجغرافيا

حين يُذكر مفهوم “العزلة” في مناطق الريف، يتبادر إلى الذهن أولاً شكل الجبال الوعرة والتضاريس الحادة. لكن الحقيقة أن العزلة ليست جغرافية خالصة، بل عمرانية وسياسية وتنموية قبل كل شيء. فالجبل لا يعزل أحداً؛ الطرق المهملة هي التي تفعل. والمسالك الضيقة ليست قدراً، بل نتيجة مباشرة لغياب صيانة منتظمة، وتخطيط سابق لم يضع القرى الجبلية ضمن أولويات الاستثمار.

في الحسيمة، تتجلى هذه المعضلة بوضوح. عشرات الدواوير تمتد بين قمم متباعدة، حيث تتحول رحلة قصيرة إلى مغامرة يومية، خاصة خلال فترات الأمطار والثلوج. الوصول إلى مدرسة أو مستشفى أو سوق أسبوعي قد يستغرق ساعات، ليس لأن المسافة طويلة، بل لأن الطريق لا تستجيب لاحتياجات السكان. ومع مرور الوقت، تتحول هذه الصعوبة من عائق لوجستي إلى عبء اجتماعي ينعكس على كل قطاع: التعليم، الصحة، الفلاحة، الأمن الغذائي، وحتى الاستقرار الأسري.

العزلة الترابية تُلقي أثراً مباشراً على استمرار الهجرة القروية. فالشباب الذين يطمحون إلى حياة طبيعية يجدون أنفسهم أمام بنية تحتية تعيق حركتهم قبل طموحاتهم. والنساء، خاصة في القرى المرتفعة، يدفعن الثمن الأكبر: متابعة الدراسة تصبح شبه مستحيلة، والوصول إلى الخدمات الصحية قد يتحول إلى رحلة محفوفة بالمخاطر.

إعادة فتح الطرق وصيانة الشبكات الريفية تمثل أكثر من تدخل هندسي؛ إنها عملية تحريك للحياة الاقتصادية والاجتماعية. فكل متر من طريق صالحة للاستعمال يغيّر معادلات يومية كانت تبدو ثابتة:

إن الطرق في الريف ليست مجرد ممرات، بل شبكات حياة. وكل مشروع طريق، مهما بدا صغيراً، يمكن أن يُعيد قرية كاملة إلى الخريطة الاقتصادية. وقد أثبتت التجارب الحديثة أن بناء مسالك جديدة ليس هو التحدي الأصعب؛ الصعوبة الحقيقية تكمن في الصيانة الدورية التي تمنع انهيار الطرق بعد موسم مطري واحد.

لذلك، يصبح من الطبيعي التفكير في مقاربة جديدة تقوم على:

العزلة الترابية ليست مجرد غياب للطرق، بل غياب للرؤية. والحسيمة، بما تملكه من موارد بشرية وطبيعية، تستطيع كسر هذه العزلة إذا اعتُبر الطريق مشروعاً اجتماعياً بقدر ما هو مشروع هندسي. فعندما تصل الطريق، تصلُ معها الخدمات، ويعود الأمل، ويستعيد الريف حيويته.

الجغرافيا ليست عائقاً بذاتها؛ ما يعرقل تحول الحسيمة هو البطء في التعامل مع مشكلات معروفة منذ سنوات. الطريق عنصر أساسي في الكرامة والتنمية، لأنها تفتح المدارس والمستوصفات والأسواق على ساكنة الجبل. وعندما يغيب هذا الربط الحيوي، يبقى الجبل محلاً لإمكانات واسعة لا تجد طريقها إلى الاستثمار والإنتاج. فالبنية الطرقية ليست رفاهية، بل مدخل لاقتصاد متوازن وحياة يومية أكثر استقراراً، وفرصة لقرى بأكملها كي تعود إلى الخريطة التنموية الفعلية.

 

  1. الربط الجوي… خطوة صغيرة بتأثير كبير

في عالم تتحرك فيه التنمية بسرعة الضوء، يصبح عامل الزمن محدِّداً أساسياً في جاذبية الأقاليم وقدرتها على الاندماج في الدورة الوطنية والدولية. والحسيمة، رغم امتلاكها مطاراً مجهزاً بمعايير جيدة، تعيش منذ سنوات داخل دائرة ربط جوي محدود لا يعكس موقعها الجغرافي الاستراتيجي ولا حاجياتها الاقتصادية والاجتماعية. فالمدينة تقع على بوابة المتوسط، وتتوفر على جالية ضخمة في أوروبا، وتمتلك مؤهلات سياحية كبرى، لكنها ما زالت أسيرة خطوط موسمية أو متقطعة، لا توفر الاستقرار المطلوب للمسافرين ولا تخدم الدينامية الاقتصادية للإقليم كما يجب.

إن ربط الحسيمة بالرباط ليس مجرد تحسين لخدمة التنقل. هو اختصار للمسافة الإدارية التي غالباً ما تقف بين الفاعلين المحليين ومراكز القرار. رحلة جوية مباشرة نحو العاصمة تُسهّل على المنتخبين، والطلبة، والموظفين، وأصحاب المشاريع، إنجاز المعاملات دون إرهاق السفر البري الطويل والمكلف. كما أن هذا الخط يمكن أن يتحول إلى رافعة اقتصادية، إذ يُتيح للمستثمرين زيارة الإقليم بسهولة، ويفتح الباب أمام تعاونيات وشركات ناشئة تبحث عن أسواق أوسع وفضاءات للعرض والتسويق.

أمّا بالنسبة لمدن الجنوب—كالعيون والداخلة—فإن الربط الجوي معها يحمل بُعداً استراتيجياً أكبر من مجرد حركة نقل. المغرب اليوم يتجه نحو تكامل اقتصادي بين الشمال والجنوب، حيث أصبحت الأقاليم الجنوبية فضاءً اقتصادياً صاعداً بفضل مشاريع الطاقات المتجددة، والصيد البحري، واللوجستيك. خط جوي بين الحسيمة وهذه المدن يعزز الاندماج الداخلي، ويخلق جسوراً جديدة للتعاون التجاري والسياحي، ويمنح شباب الريف فرصة للتعرف على ديناميات اقتصادية مختلفة داخل بلادهم.

لكن البعد الأكبر والأعمق لهذا الملف هو البعد الإنساني المرتبط بالجالية الريفية في أوروبا. فآلاف العائلات في الحسيمة لها جذور في ملقة، وبرشلونة، ومدريد، حيث يقيم عدد كبير من أبناء الإقليم. هذه الروابط الأسرية والثقافية تمنح الخطوط الجوية المباشرة نحو إسبانيا طابعاً يتجاوز النقل البسيط، إذ تتحول إلى حاجة اجتماعية تدعم صلة الرحم، وتتيح للجالية العودة بسهولة خلال العطل، وتوفر مساراً واضحاً وآمناً وسريعاً بعيداً عن التعقيد اللوجستي لرحلات متعددة الوسائط بين الطائرة والحافلة والعبّارة ferry.

كما أن السياحة—الداخلية والدولية—لا يمكن أن تنتعش في غياب ربط جوي مستقر. فالسائح الأوروبي الذي يستطيع الوصول إلى الحسيمة في ساعتين سيعيد اكتشاف شواطئها، ومرتفعاتها، ومآثرها الطبيعية بسهولة، وسيُنعش اقتصاد الفنادق والمطاعم والتعاونيات الحرفية. الربط الجوي المنتظم يحوّل الحسيمة من وجهة «صعبة الوصول» إلى وجهة «قريبة»، رغم بعدها الجغرافي الظاهري عن مراكز الحركية.

وربط الحسيمة جواً خطوة تبدو بسيطة في مظهرها الأول، لكن أثرها يمتد إلى مساحة أوسع بكثير من بعدها التقني. فحركة الطيران تتحول إلى آلية لدمج الإقليم في إيقاع الدولة، وتفتح له أبواب الشبكات الاقتصادية العالمية، وتمنح الساكنة فضاءً واسعاً للحركة، كما تشجع المستثمرين والسياح على اكتشاف المنطقة. ومع هذا الارتباط تنتعش الثقة الجماعية ويتراجع الإحساس التاريخي بالابتعاد عن مراكز القرار، ليأخذ الإقليم مكانته الطبيعية داخل الخريطة الوطنية.

الربط الجوي المستقر والمتنوع ليس امتيازاً، بل حق تنموي. وإذا تمت مقاربة هذا الملف بوصفه استثماراً في مستقبل الإقليم، لا خدمة نقل موسمية، يمكن للحسيمة أن تتقدم خطوات كبيرة نحو الانفتاح على العالم، وأن تستعيد موقعها الطبيعي كجسر متوسطي حقيقي بين المغرب وأوروبا.

 

  1. شباب يريد المشاركة… واقتصاد ينتظر الجرأة

تشكل الشابات والشبان في الحسيمة الكتلة الحيوية الأهم في الإقليم. جيل وُلد في زمن الاتصال الرقمي، ويتقن اللغات، ويتابع المستجدات العالمية، ولا يخشى التجارب الجديدة. وعلى خلاف الصورة التقليدية التي كثيراً ما تُلصق بالمناطق الجبلية، فإن شباب الحسيمة اليوم يمتلك مستوى تعليمي جيد نسبياً، ووعياً مدنياً متقدماً، وطموحاً يتجاوز حدود الإقليم. ومع ذلك، يظل هذا الجيل محاصراً بين إمكاناته الشخصية وبين واقع اقتصادي محدود الآفاق، ما يجعل الفجوة بين ما يستطيع فعله وما هو متاح له، فجوة مؤلمة وأحياناً محبطة.

التحدي الأكبر أمام شباب الحسيمة يتمثل في غياب المسارات الواضحة التي تربط التكوين بسوق الشغل، رغم توفر الرغبة والإرادة في العمل. فالكثير من الخريجين يجدون أنفسهم أمام عروض شغل موسمية أو غير مستقرة، بينما يتطلب الإقليم مهارات جديدة لا تزال غير مستثمرة بالشكل المطلوب في قطاعات مثل الصيد العصري، والصناعات التحويلية للقنب القانوني، والسياحة البيئية، والخدمات المرتبطة بالاقتصاد الرقمي.

الحل يبدأ بتوفير تكوينات قصيرة ومركزة، تتيح للشباب اكتساب مهارات عملية في ظرف وجيز، خصوصاً في القطاعات التي يُتوقَّع أن تشكل مستقبل المنطقة. تكوينات في تدبير التعاونيات، وفي الجودة الصناعية، وفي اللوجستيك البحري، وفي تسيير المشاريع الصغيرة، يمكن أن تُحدث نقلة نوعية إذا تمت بإشراف مهنيين وخبراء، وليس كدورات نظرية لا تفتح أبواباً فعلية.

ثم يأتي عامل مهم لا يقل قيمة: تحسين بيئة الاستثمار المحلي. فالشاب الذي يملك فكرة مشروع يحتاج إلى مسار إداري بسيط، وتمويل أولي معقول، ومواكبة تقنية حقيقية. واقع الحال اليوم يكشف أن الإجراءات الإدارية المعقدة، وتعدد المساطر، وغياب الشباك الموحد الفعّال، كلها حواجز تجعل الكثير من المشاريع تتوقف قبل أن تبدأ. تبسيط المساطر، وإحداث منصات رقمية، وإتاحة المعلومات بوضوح، يمكن أن يحرر طاقة مقموعة لدى عشرات الشباب القادرين على خلق مشاريع واعدة.

قطاع المقاولات الناشئة يمثل فرصة كبيرة للحسيمة، خصوصاً في السياحة البيئية التي يمكن أن تستند إلى ثروة الإقليم الطبيعية، وفي خدمات البحر التي تحتاج إلى شباب يجمع بين المعرفة التقنية وروح الابتكار. كما يمكن للزراعة الذكية—إذا اقترنت بالتحول الصناعي—أن توفر مساحات واسعة للمشاريع الصغيرة الموجهة نحو الإنتاج المتميز والمعتمد على الجودة.

أما الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، فهو قطاع واعد لكنه لم يتحول بعد إلى رافعة اقتصادية حقيقية. الكثير من التعاونيات النسائية والشبابية تنجح في إنتاج زيت الزيتون، والعسل، وبعض المنتجات المحلية، لكنها تبقى محدودة في التسويق والتعليب، ما يجعل عائدها الاقتصادي منخفضاً. دعم هذا القطاع يتطلب المرافقة الإدارية، وربط التعاونيات بالأسواق، وإدخال معايير الجودة، وتوفير تجهيزات مشتركة، بحيث تتحول من مبادرات ذات طابع رمزي إلى وحدات إنتاج فعلي.

الحسيمة قادرة على تحويل شبابها إلى طاقة اقتصادية منتجة، شرط أن تتوفر جسور حقيقية تربط التكوين بالتشغيل، والفكرة بالمشروع، والمهارة بالفرصة. الشاب يحتاج إلى منظومة تنظيمية تمنح قدراته مساحة فعل حقيقية، وتوفر له إطاراً يسمح بالمحاولة، والتجريب، وصناعة الإنجاز.

الجرأة هنا ليست شعاراً، بل قراراً يتلخص في إدماج الشباب داخل الدورة الاقتصادية للإقليم. وحين يحدث ذلك، سيكتشف الجميع أن الحسيمة لا تعاني من نقص في الموارد البشرية، بل من غياب مسارات تضع هذه الموارد في مكانها الصحيح.

 

  1. نحو رؤية جديدة… الإقليم ليس مشكلة، بل مشروع غير مكتمل

حين نقترب من الحسيمة بتجرد وبعين تحليلية، يتضح أنّ الإقليم لا يعيش أزمة هوية ولا يحتاج إلى “إنقاذ” كما يرد أحياناً في الخطاب العام. ما يحتاجه فعلياً هو منهج جديد، طريقة تفكير مختلفة تُعامل الإقليم باعتباره مشروعاً في طور التشكل، مجالاً يتوفر على عناصر القوة لكنه لم يصل بعد إلى مستوى الاستغلال الأمثل لموارده البشرية والطبيعية. فالاختلالات الموجودة ليست قدراً نهائياً، بل علامات على مرحلة انتقالية تتطلب وضوحاً في الرؤية وجسارة في الفعل.

هذا التحول يبدأ أولاً بـ قراءة دقيقة للواقع. الإقليم لا يمكن فهمه من خلال معطيات تقنية باردة فقط، ولا عبر صور نمطية تستدعي الماضي أو تختزل الحاضر في مشاهد احتجاج ظرفية. القراءة المطلوبة تجمع بين المعرفة الميدانية والسياق الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. فالحسيمة تمتلك خصوصية جغرافية وسوسيولوجية تجعل من التخطيط التنموي عملية دقيقة تحتاج إلى فهم لإيقاعات الحياة اليومية، وطبيعة العلاقات داخل المجتمع، ومصادر القوة التي يمكن البناء عليها.

العنصر الثاني يتمثل في تنسيق مؤسساتي فعّال؛ فالتنمية عملية مركّبة تتطلب انسجاماً حقيقياً بين الجماعات الترابية، والمصالح اللاممركزة، والمؤسسات الوطنية، والقطاع الخاص. هذا التنسيق يمنح المشاريع رؤية موحّدة، ويُحوّل المبادرات المتفرقة إلى مسار تنموي واضح ومتكامل. أي خطأ في التنسيق يُبطئ وتيرة الإنجاز، ويخلق هوامش غموض تُفقد الثقة وتُضعف مردودية التدخلات. وجود قيادة ترابية واضحة، تسهّل الحوار وتوحّد الرؤية وتتابع التنفيذ، يُعتبر شرطاً أساسياً لنجاح أي برنامج مستقبلي.

يأتي بعد ذلك إدماج الكفاءات المحلية. فالإقليم مليء بأطر تعليمية وصحية، ومهندسين، ورجال أعمال، وباحثين، ومهاجرين يحملون خبرات دولية. الاستثمار في هذه الطاقات يشكّل خياراً أساسياً لضمان تنمية متوازنة وفعّالة، لأن الكفاءات المحلية عنصر بنيوي في أي تحول اقتصادي أو اجتماعي. إشراكهم في اتخاذ القرار، وفي صياغة المشاريع، وفي التقييم، يعطي للسياسات العمومية واقعية أكبر ويمنحها عمقاً اجتماعياً يضمن التملك الجماعي لها.

وفي قلب هذه الرؤية الجديدة، يتموضع التعليم والصحة باعتبارهما أساس التحول. فالإقليم لن ينهض ما لم يملك رأسمالاً بشرياً مؤهلاً وقادراً على قيادة التغيير. والمدرسة والمستشفى هما المؤسستان اللتان تُعيدان الثقة، وتحددان آفاق الأجيال المقبلة، وتبنيان الرابط الحيوي بين الدولة والمواطن. أي إهمال لهذين القطاعين يُفقد التنمية معناها، مهما كانت قوة الاستثمارات في البنيات الأخرى.

اقتصاد الحسيمة، كما تشير المؤشرات، يعتمد على ثلاثة أعمدة رئيسية: البحر، والجبل، والقنب الهندي القانوني. هذه الأعمدة يمكن أن تتحول إلى قواعد صلبة لاقتصاد متكامل، إذا تم التعامل معها برؤية حديثة. قطاع الصيد يحتاج إلى حماية ورقمنة وتجديد للأسطول. أما الجبل فيحتاج إلى فلاحة ذكية وصناعة تحويلية قادرة على خلق قيمة مضافة. والقنب القانوني يحتاج إلى مختبرات جودة، ووحدات صناعية، ومنظومة تكوين علمي تُخرج الإقليم من دائرة المادة الخام إلى دائرة الصناعة والابتكار.

غير أن هذه البرامج، مهما بلغت دقتها، ستظل ناقصة دون سياسات شفافة وملموسة تُعيد الثقة للساكنة. التنمية هندسة اجتماعية بقدر ما هي هندسة عمرانية، تقوم على طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، لا على البنيات وحدها. والمواطن يصبح جزءاً من الحل حين يشعر بأن الدولة تُخاطبه بوضوح، وبأن وعودها تُنفّذ، وبأن القرارات تُبنى على معايير واضحة لا على اعتبارات ظرفية. الثقة ليست مجرد إحساس، بل أساس لاستقرار الاستثمار، ولمشاركة الشباب، ولانخراط المجتمع المدني في التنمية.

الإقليم يمتلك كل مقومات النجاح: موقعٌ استراتيجي على المتوسط، موارده البشرية قوية ومرنة، ثروة بحرية وزراعية معتبرة، وذاكرة جماعية صلبة بنت شخصيته عبر عقود من التحولات. ما يحتاجه اليوم هو طريقة عمل مختلفة، لا خطابات موسمية ولا مبادرات مُجزّأة. إن الحسيمة قادرة فعلاً على أن تصبح قطباً تنموياً متوسّطياً متكاملاً، إذا اجتمعت عناصر الرؤية الواضحة والإرادة الميدانية والتخطيط العقلاني.

والمعادلة هنا بسيطة:
حتى ينتقل الإقليم من الانتظار إلى الفعل، يحتاج إلى قرار منهجي واضح يضع الحسيمة في مركز الخريطة لا في هامشها. وعندما يحدث ذلك، سينعكس أثره على كل تفاصيل الحياة: من المدرسة إلى الميناء، ومن الحقل إلى المصنع، ومن الجبل إلى أوروبا، حيث ينتظر جزء من أبنائه أن يروا إقليمهم يحتل المكانة التي يستحقها.

فكري سوسان، أستاذ باحث