حسن مخافي: ثقافة المواطنة وثقافة الفساد

حسن مخافي: ثقافة المواطنة وثقافة الفساد حسن مخافي
 منذ سنوات طويلة والمواطن المغربي يسمع عن محاربة الفساد، ويحمل على عاتقه أمل التخلص من هذه الآفة التي تنخر المجتمع والإنسان قبل أن تضر بالاقتصاد الوطني بابتلاع قسط من المال العام الذي هو ملك لجميع المغاربة. 
ومنذ سنوات طويلة والمواطن المغربي يسمع ويقرا عن فضائح كبرى تقشعر لها الأبدان، كلفت الدولة مبالغ تكفي لبناء آلاف المدارس والمستوصفات وتشغيل آلاف الشباب. وكلما استنفذت "الفضيحة" وظيفتها الإعلامية، انصب الماء على نارها فأصبحت بردا وسلاما على على المشتبه بسرقتهم لخبز المغاربة، وعادوا إلى قواعدهم غانمين ليمارسوا نفس اللعبة القذرة مرة ومرات.
إن ما هو غريب في مسألة الفساد أن كل مكونات المجتمع، مواطنين ومسؤولين يعترفون بوجوده ويحذرون من خطره على السلم الاجتماعي، ويدعون إلى محاربته بالضرب بيد من حديد على المفسدين. ومع ذلك يزداد الداء تفشيا وتزداد انعكاساته خطورة على المواطن، الذي لا يمس الفساد عيشه اليومي فحسب، ولكنه يخدش مواطنته وكرامته. 
لقد "نجح" الفساد في خلق فئة اجتماعية لا تعترف بالعمل كقيمة اجتماعية شريفة، وترى في الإثراء هدفا ينبغي الوصول إليه بسرعة، وبكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، ما دامت الغاية عندها تبرر الوسيلة. والأنكى من هذا كله أن عدوى الفساد وصلت إلى فئات كانت إلى وقت قريب تتمتع بالحصانة الوطنية والأخلاقية التي تجعلها في منأى عنه. فعندما تصبح مؤسسات النخب داخل المجتمع كالجامعة العمومية محل شبهة من هذا النوع، فإن هذا يعني أن مقاومة الفساد تزداد تعقيدا يوما عن يوم.
لا شك في أن المغرب يمتلك ترسانة قانونية متقدمة لمحاربة الفساد، ولا شك في أنه راكم وعيا حادا بما يشكله على الإنسان والمجتمع من تهديد يطال الشخصية المغربية في جوهرها. ومع ذلك فإن ما تم إنجازه لحد الآن لم يوقف النزيف، مما يدل على أن هناك خللا ما يقف دون القضاء على هذه الآفة. 
ويبدو أن الخلل لا يكمن في النصوص القانونية، بل في الآليات التي من المفروض أن تجعل من القوانين واقعا ملموسا، وفي النظرة الضيقة التي تحصر الفساد في "حالات شاذة"، يعتقد البعض أن مجرد معاقبة أصحابها برميهم في السجن قد ينهي المشكل. فإذا كان الفساد قد وصل إلى درجة تجعله يهدد التماسك الاجتماعي، فإن هذا يفرض بالضرورة تطبيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب ومعالجة الظاهرة معالجة اجتماعية. 
والمعالجة الاجتماعية تبدأ بالتربية على المواطنة. ومن ثم فإن الفساد سيكف عن الانتشار عندما يعي كل مواطن مهما كانت درجته في السلم الاجتماعي، بأن كل درهم أدخله إلى جيبه ولم يوفره من عرق جبينه هو ملك للأخرين وهو سرقة في واضحة النهار.
 من أين يأتي المواطن بهذا الوعي؟ ينبغي أن نقر بأنه كما توجد ثقافة للمواطنة، فإن هناك مع الأسف الشديد "ثقافة" للفساد تقابلها وتقف ضدها، وتمتلك كل أساليب الانتشارالتي تدفع إلى إقناع المواطن بأن الرشوة هي "هدية" من نوع خاص وليست جريمة في حق الفرد والمجتمع، وأن مد اليد إلى المال العام هو احتيال على الدولة وليس سرقة ملك المغاربة أجمعين، وأن الغش بمختلف أنواعه هو نوع من "الكذب الأبيض" وليس انتزاعا للقمة من أفواه الآخرين. 
عندما تتغلب ثقافة المواطنة على ثقافة الفساد يمكن القول إن هزيمته لها موعد منظور. ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا بالعمل على بناء وعي جديد يقطع مع الماضي ويتطلع إلى المستقبل. وهو أمر يحتاج إلى "عقلية" ترسخ القيم الإنسانية، قيم العدل والمساواة والتسامح. وهي مهمة لا توكل إلى الدولة وحدها، بل إلى هيئات المجتمع المدني على تنوعها واختلافها. ولكنها في الأول والأخير مرهونة بإرادة حقيقية لمحاربة الفساد. إذ لا يكفي الاعتراف بوجوده وانتشاره، بل ينبغي اتخاذ الخطوات الملموسة للقضاء عليه، وهو ما يتطلب جرأة سياسية تتخلص من الهاجس الانتخابي، وتستحضر المخاطر التي تترتب عن هذه الجائحة على المدى القريب والبعيد. 
إن هذا لا يعني استصغار الدور الذي يلعبه القضاء العادل بهذا الخصوص. فلو أن كل جرائم الفساد تصل إلى المحاكم، ولو أن القضاء يتمتع باستقلالية مطلقة ويتوفر على كل الإمكانيات التي تسمح له بمتابعة المفسدين والسهر على تطبيق الأحكام التي تصدر في حقهم، لخفت وطأته على الناس. وفي انتظار تعميم ثقافة المواطنة التي بدونها لا يمكن اجتثاث الفساد من جذوره، ستظل "محاربة الفساد" مجرد شعار للاستهلاك السياسي الفج، تلوكه ألسن الوزراء والمسؤولين دون أن تجد سبيلا إلى تنزيله على أرض الواقع.