نعيمة بنعبدالعالي: بين الصمت والضحك.. إعادة بناء الكرامة في الطريق المسدود

نعيمة بنعبدالعالي: بين الصمت والضحك.. إعادة بناء الكرامة في الطريق المسدود نعيمة بنعبدالعالي

نعيش في عصرٍ تتداخل فيه الطرق المسدودة: طريقٌ ماديٌّ حيث تنهار أرض العيش تحت أقدامنا؛ طريقٌ سياسيٌّ، حيث تقلص المؤسسات والخطابات الوطنية أجسادًا مُعينة إلى حدّ الاختفاء أو إلى حالة التهديد؛ طريقٌ وجوديٌّ، حيث يبدو معنى الفعل نفسه مُبتلعًا في دوامة اللامعنى التاريخي. في مثل هذا السياق، تتأرجح، بل تنهار، مقاييس القيم التقليدية الكبرى-العمل، الوطن، التضحية، المستقبل. عندها يُصبح الأدب مختبرًا: لا لتقديم الحلول، بل لإعادة ابتكار ما يستحق أن نعيش من أجله، حتى عندما يبدو كل شيء ضائعًا.

قليلة هي الأعمال التي تُجسّد هذه الحاجة المُلحّة أفضل من السرديات الفلسطينية المكتوبة في ظلّ النكبة وتداعياتها. من بينها، يبرز نصّان رمزيّان يُقدّمان مساراتٍ مُختلفة جذريًا، وإن كانت مُتكاملة في العمق: رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" (1962) ورواية إميل حبيبي "المُتشائل" (1974). الروايةٌ الأولى، رصينة ومأساوية، تروي موت ثلاثة منفيين صامتين محاصرين في صهريج؛ أما الرواية الثانية، فهي هزلية وساخرة، تتبع معاناة مواطن فلسطيني في إسرائيل ينجو عن طريق الازدواج والضحك. تتساءل الرواية الأولى عما تبقى من الكرامة حين تضيق الخيارات؛ بينما تستكشف الرواية الثانية ما يمكن أن يستمر حيًا حين تبدو الكرامة كلها في خطر. في هذا التوتّر تحديدًا - بين الصمت والكلام، والتضحية والبقاء، والنقاء والتنازل - تجري إعادة بناء جذرية للقيم. لذا، فإن سؤالنا المحوري هو: إذا تساءل كنفاني عما تبقى من الكرامة الإنسانية حين تُقطع كل السبل، وإذا استكشف حبيبي ما يمكن أن يظل حيًا حين تبدو الكرامة كلها مفقودة، فهل يكشف حوارهما الأدبي أن إعادة بناء القيم في سياق مأزقي لا تكمن في التضحية الصامتة، ولا في الضحك وحدهما، بل في تفاعل متوتر بينهما؟

سنُبيّن أولاً كيف تكمن الكرامة، عند كنفاني، في محو الذات نفسها - في صمتٍ يحفظ الإنسانية عن طريق الاختفاء. ثم سنرى كيف يجعل حبيبي، على العكس من ذلك، من الضحك والازدواجية سلاحين أخلاقيين للثبات في الوجود دون نبذ الذاكرة. وأخيرًا، سنقترح أنه في الحوار بين هذين القطبين - المأساوي والكرنفالي، الصامت والثرثار، النقي والغامض - تنبثق أخلاق جديدة: أخلاق قيمة موضوعية، متجسدة، غير بطولية، لكنها إنسانية في عمقها.

 

الكرامة في محو الذات: أخلاقيات كنفاني المأساوية للصمت

في رواية "رجال في الشمس"، لا يروي غسان كنفاني دراما بطولية، بل موتًا مجهول الهوية، يوميًا، يكاد يكون عاديًا: ثلاثة فلسطينيين، من أجيال مختلفة، يختنقون في صهريج شاحنة أثناء محاولتهم عبور الصحراء العراقية للعمل في الكويت. الرواية ترفض كل عاطفة وكل مجد. وفي غياب هذه اللفتة المُبهرة تحديدًا، تتكشف أخلاقية جذرية: كرامة لا تسعى إلى عرض أو تبرير، ولا حتى إلى البقاء. إنها تكمن في محو الذات نفسها - في رفض التوسل، والتسول والشكوى وإزعاج صمت الصحراء بصرخة لن تُسمع. هذه الكرامة لا تسعى لأي الدعاء، وإنما تختار الانسحاب. يعرف الرجال الثلاثة مصيرهم من أولى علامات الاختناق، لكنهم لا يضربون على جدران الشاحنة. هذا الصمت ليس سلبية، بل هو الصمود الأخير للإنسانية ضد التشيئ. إنسانية ترفض أن تختزل إلى أجساد فائضة قابلة للتبادل، لا فائدة منها، يرفضون حتى الخطوة الحيوانية للبقاء على قيد الحياة. وبهذا، يُصبح صمتهم شكلاً أسمى من أشكال التواضع الأخلاقي. وكما كتب كنفاني في قصة قصيرة مشابهة (أبواب الشمس): "ليس للإنسان الحق في فقدان كرامته، حتى في الموت". هنا، لم تعد الكرامة تكمن في الفعل، بل في رفض خيانة فكرة معينة عن الذات، حتى في وجه العدم.

الإنسان الصامت لا يكفّ عن كونه إنسانًا - لأنه يُفضّل الاختفاء في صمتٍ على أن يكون مشهدًا - فهو يحتفظ بجزءٍ مُراوغٍ من إنسانيته. الكرامة هنا لم تعد ما يُثبت وجوده في العالم، بل ما يقاوم بالاختفاء من العالم.

ومع ذلك، فإن أخلاقيات الصمت هذه تحمل في طياتها مأزقًا مأساويًا. فبينما تُحافظ على سلامة الذات، فإنها لا تُغيّر شيئًا في البنية التي سحقته. يموت الرجال، ولا يُثير موتهم ثورةً ولا ذكرى ولا عدالة. سائق الشاحنة نفسه لا يُدرك أنه ينقل جثثًا. الكرامة، بمحوها، تُصبح غير قابلة للانتقال. لهذا السبب يختتم كنفاني روايته بسؤالٍ مُؤرق، لا يُوجّه إلى الموتى، بل إلى الأحياء: "لماذا لم يُطرقوا الجدران إذًا؟" هذا السؤال ليس اتهامًا، بل نداءً لعدم السماح بصمت الكرامة. إنه يُشير إلى الانتقال من الأخلاق الفردية إلى الضرورة السياسية: فالكرامة لم تعد كافية إذا بقيت غير مسموعة. وهكذا، بالنسبة لكنفاني، فإن "الكرامة في محو الذات" ليست غاية في حد ذاتها، بل عتبة حاسمة: إنها تكشف عما تبقى من الإنسانية عندما يضيع كل شيء، لكنها تتطلب منا أيضًا أن نُحوّل الصمت إلى كلام، والموت المجهول إلى ذاكرة جماعية. هنا يصبح الحوار مع حبيبي جوهريًا: إذا كان كنفاني يُذكرنا بثمن الصمت، فإنّ حبيبي يُظهر لنا ما يمكن أن يُنجزه الكلام، حتى لو كان مُشوّهًا أو ساخرًا. أحدهما يُحافظ على الكرامة في محو الذات؛ والآخر يُعيد اختراعها وسط ضجيج العالم.

 

الكرامة من خلال الضحك: أخلاقيات البقاء المتمردة في رواية إميل حبيبي

يختار إميل حبيبي صخب الحياة المُبهج - مهما كانت مُلتوية ومُشوّهة وعبثية. في رواية "المتشائل" (1974)، يروي بسخرية لاذعة مغامرات سعيد أبو النحس، المواطن الفلسطيني في إسرائيل، الذي نجح، بين تعاونه الظاهري ومقاومته المُتكتمة وسوء فهمه المُضحك، في البقاء على قيد الحياة -والأهم من ذلك، في سرد ​​قصته. يستكشف حبيبي الكرامة مُتنكرةً بكلماتٍ تسخر من نفسها، في بادرة مُلتبسة ترفض الاستشهاد والخيانة على حدٍّ سواء. يُحدد عملُه أخلاقياتٍ مُختلفة جذريًا: أخلاقيةً للمثابرة في مواجهة العبث.

 

وضْع سعيد أبو النحس، في حد ذاته، مأزق سياسي كامل. فلسطيني بقي في الجليل بعد عام1948، أصبح مواطنًا في دولة أنكرت شرعية شعبه، وفي الوقت نفسه طالبت بولائه. هو "حاضرٌ غائب"، وفقًا للمصطلحات القانونية الإسرائيلية - ظاهرٌ، ولكنه منكر؛ متكامل، ولكنه مشتبه به. في فخ الهوية هذا، لم يعد بالإمكان تحقيق الكرامة من خلال إعلان واضح، أو خيار حاسم، أو موقف بطولي. يجب أن تجد طريقها عبر الثغرات، من خلال المكر، والكلام المزدوج، والفكاهة. وهكذا، عندما أصبح سعيد مُخبرًا للشرطة الإسرائيلية، لم يفعل ذلك بدافع الخيانة، بل "لحماية شعبه" - وقبل كل شيء، للبقاء في اللعبة، لتجنب الاختفاء من السرد الجماعي. ازدواجيته ليست سخرية؛ إنها استراتيجية للبقاء كأقلية.

هنا تلعب الفكاهة دورًا أخلاقيًا أساسيًا. ضحك حبيبي ليس مجرد تسلية؛ إنه سلاح معرفي، قادر على زعزعة استقرار يقينيات السلطة. بسرده لتنازلاته بسخرية مرحة، يكشف سعيد أبو النحس عبثية النظام الذي يسجنه. يُظهر أنه في عالمٍ تُصبح فيه الهوية الفلسطينية مفارقة حية، فإن السبيل الوحيد للبقاء إنسانيًا هو الضحك على هذه المفارقة - دون التخلي عنها. تفاؤل هذا "المتشائل" ليس ساذجًا؛ إنه مقاومة من خلال سرد القصص. ما دام يتكلم، ما دام يروي قصته، حتى وهو يسخر من نفسه، فإنه يؤكد وجوده، وأن له تاريخًا، وأنه لم يُمْح.

تُحاكي أخلاق الضحك هذه ما أسماه ميخائيل باختين "الكرنفال": مساحة مؤقتة تُقلب فيها التسلسلات الهرمية، حيث يمكن للدنيء أن يتحدث بعلو. لكن بالنسبة لحبيبي، الكرنفال ليس مؤقتًا: إنه أسلوب حياة دائم، فرضته الحالة الاستعمارية. لم يعد الضحك احتفاليًا؛ إنه دفاعي، إبداعي، تذكاري. يصبح السرد بحد ذاته فعل مقاومة: بكتابة سيرته الذاتية، المليئة بالأكاذيب والمفارقات والاستطرادات، يرفض سعيد أبو النحس إسكات شعبه أو اختزاله إلى صورة الاستشهاد المبتذلة.

ومع ذلك، تحمل هذه الأخلاقيات مخاطرها الخاصة. يمكن استغلال الضحك، ويمكن أن يتحول النفاق إلى تواطؤ، ويمكن أن يصبح البقاء غاية في حد ذاته. حبيبي يدرك هذا، ولهذا السبب يحيط بطله بسخرية نقدية ذاتية: سعيد غالبًا ما يكون سخيفًا، وأحيانًا جبانًا، وغالبًا ساذجًا. ولكن هنا تكمن عظمته تحديدًا: إنه يتقبل ضعفه الأخلاقي، وهذا ما يجعله إنسانًا. إنه لا يدعي تجسيد قيمة مثالية؛ إنه يجسد صعوبة تبني قيمة في عالم ينكرها. وهكذا، يُظهر لنا حبيبي أن الكرامة يمكن أن تبقى أيضًا، بتمويهها من خلال كلام مزيف. وهذا التوتر - بين الانسحاب والحضور، والنقاء والتنازل، والموت والبقاء - هو ما يفتح المجال لأخلاق جديدة: أخلاق لا تحكم على الأفعال بمقياس مثالية مجردة، بل في ضوء الوضع الملموس لمن يقومون بها.

 

الحوار كمكان لإعادة التقييم

 

لا يتناقض كنفاني وحبيبي؛ بل يتكاملان تحت الضغط. أحدهما يكتب من منفى خارجي، والآخر من منفى داخلي. أحدهما يغوص في ثقل الصمت، والآخر يرقص في عبثية الحياة اليومية. لكن كلاهما يرفض خطاب التضحية البطولية بقدر ما يرفض خطاب الاستسلام السلبي. عملهما المشترك - وإن كان مختلفًا في الشكل والأسلوب - يُجسّد أخلاقيات الطريق المسدود، حيث لم تعد القيم مُثُلًا عليا، بل بوادر مقاومة، صامتة أحيانًا، ساخرة أحيانًا، ودائمًا هشة.

بالنسبة لكنفاني، الكرامة هي ما لا يُعرَض: إنها تنسحب من العالم بدلًا من أن تُمارس فيه الدعارة. لكن هذا الانسحاب، مهما كان نبيلًا، فقد يحكم على الذاكرة بالنسيان. في حالة حبيبي، على العكس، تتخفى الكرامة للبقاء: تضحك، تروي، تبالغ، تناقض نفسها - لكنها تصمد، والأهم من ذلك، تنتقل. صمت كنفاني يُبرز فداحة الخسارة؛ ضحك حبيبي يبتكر طرقًا لتحملها دون أن تسحقها. أحدهما يُذكرنا بأنه بدون عدالة، يكون الضحك أجوف؛ والآخر يُخبرنا بأنه بدون ضحك، تبقى العدالة صامتة.

لذا، في توترهما الجدلي، تتشكل أخلاق معاصرة: لا تقوم على عظمة البادرة، بل على ثبات الرابطة -الرابطة مع الذات، مع الآخرين، مع الذاكرة. ترفض هذه الأخلاق التصنيفات الأخلاقية الثابتة: "الجبان" قد يكون حكيمًا، و"الأخرس" قد يكون متمردًا، و"التسوية" قد تكون استراتيجية. لم يعد المهم من نكون، بل ما نفعله بما نملك، حتى لو كان مجرد نفس، ضحكة مُصطنعة، ذاكرة مشوهة.

 

يظهر الأدب الفلسطيني أن الكرامة ليست مبدأ، بل فعل ملموس، مأساوي أحيانًا، وهزلي أحيانًا، ودائمًا ما يكون إنسانيًا. وهنا تكمن قوته: فهو لا يُرشدنا إلى كيفية أن نكون جديرين بالتقدير، بل يُذكرنا بأننا كذلك بالفعل، حتى -وخاصةً -عندما يُعاملنا العالم على أنه لا لزوم لوجودنا.

أمام هذا المأزق الثلاثي - المادي، والسياسي، والوجودي - يكون الإغراء كبيرًا باللجوء إلى اليقينيات الأخلاقية للماضي: البطولة، والنقاء، والولاء المطلق. لكن أعمال كنفاني وحبيبي تُبعدنا عن هذا الوهم. يعلّمنا الأول أن الكرامة قد تكمن في صمت جسد يرفض الاستجداء؛ والآخر، أنه يستطيع أيضًا الاختباء وراء ضحكة تُحبط مصائد السلطة. لا يُقدّم أيٌّ منهما نموذجًا يُحتذى به، لكنهما معًا يفتحان فضاءً أخلاقيًا لا هو منتصر ولا هو مستسلم: فضاء تُعاد فيه صياغة القيمة في خضمّ الانهيار. يدعونا حوارهما الأدبي إلى التفكير في أخلاقيات بلا ضمانات، بلا اعتراف، بلا مستقبل مضمون - ولكن ليس بلا معنى. فالمعنى هنا لا يأتي من فوق، ولا من التاريخ، بل من إيماءات مُتوقّعة، من شهادات مُشتركة، من كلماتٍ صامدة، صامتة كانت أم جامحة. في الصحراء المُحترقة كما في المدينة المُراقبة، ما يستحق العناء ليس من يفوز، بل من يرفض أن يُمحى دون أثر. وإذا كان للأدب الفلسطيني درسٌ عالمي يُقدّمه لعصرنا المُتّسم بالأزمات المُتشابكة، فقد يكون هذا: حتى في خضمّ الانسداد، لا تكفّ البشرية عن ابتكار سُبُل لإيجاد القيمة - ليس بشكلٍ مُبهر، بل بشكلٍ أصيل. يصبح الأدب هو المكان الذي تتم فيه إعادة صياغة القيم، بدلاً من فرضها، ببطء وألم وسخرية.