يعد الرأسمال البشري داخل الأحزاب السياسية أحد أهم محددات فاعليتها واستمراريتها، إذ تمثل الكفاءات والمناضلون — من نساء ورجال وشباب — الركيزة الأساسية لأي مشروع سياسي يسعى إلى التأثير في الواقع وتوجيه القرار العمومي.
غير أنّ تدبير هذا الرأسمال داخل العديد من الأحزاب المغربية ما يزال يعاني من أعطاب بنيوية، تتجلى في ضعف التحفيز، وغياب معايير واضحة للترقية، وهيمنة منطق الولاء على منطق الكفاءة، مما أدى إلى تآكل الثقة التنظيمية وتراجع جاذبية الانخراط الحزبي، خاصة لدى الشباب والنساء اللواتي يجدن أنفسهن في مواقع رمزية أكثر من كونها فعلية.
1- الرأسمال البشري الحزبي — المفهوم والأهمية:
يقصد بالرأسمال البشري الحزبي مجموع الطاقات الفكرية والنضالية والتنظيمية التي يتوفر عليها الحزب، والتي تعد المحرك الرئيسي لإنتاج القرار، وصياغة الخطاب، وتدبير التفاعل مع المجتمع.
فالحزب الذي يستثمر في الإنسان، تأهيلا وتكوينا وتحفيزا، يضمن لنفسه استمرارية وحيوية تنظيمية، ويؤسس لنخبة قادرة على التجديد والمبادرة.
ولا يمكن لأي حزب أن يحقق نجاعة تنظيمية دون أن يمنح المرأة والشباب مكانة فعلية في دواليبه، باعتبارهما مكونين أساسيين في تجديد الدماء وضمان استمرارية المشروع السياسي. فالمرأة ليست فقط واجهة انتخابية، بل فاعل تعبوي وتنظيمي قادر على الإسهام في بلورة القرار وصناعة التوازن الداخلي. أما الشباب، فهم الخزان الحيوي للأفكار والطموح والتغيير، غير أن غياب الثقة فيهم يفقد الحزب روح المبادرة والتجديد.
2- تدبير الرأسمال البشري الحزبي — بين النظرية والممارسة:
من الناحية النظرية، تعد الأحزاب مؤسسات لتجميع الإرادات وتكوين القيادات، يفترض أن تعتمد تدبيرا عقلانيا للموارد البشرية من خلال الاستقطاب، التكوين، التقييم، والترقية.
غير أن الممارسة الواقعية تبرز محدودية هذا التدبير. ففي أغلب الحالات، لا تخضع عملية توزيع المسؤوليات أو الترقي داخل الهياكل الحزبية لمعايير شفافة، بل تتأثر بعوامل الولاء والانتماء للتحالفات و والتيارات أو القرب من مراكز القرار.
ويسجّل غياب أنظمة حديثة لتدبير الكفاءات أو تتبع المسار التنظيمي للمناضلين، مما يجعل الأداء الحزبي أسير الارتجال وردود الفعل، بدل أن يكون مؤطرًا برؤية استراتيجية تهدف إلى تأهيل العنصر البشري وضمان استمرارية المردودية السياسية والتنظيمية.
كثير من المناضلين، حتى داخل الأحزاب العريقة، لا يعرف مسارهم الحزبي أو تدرجهم داخل دواليب التنظيم، أو حتى نضالهم في العديد من الاستحقاقات الانتخابية، بل يفتقدون إلى السجل الذي يوثق مساهماتهم ونضالهم في المحطات الانتخابية أو التنظيمية. والأسوأ أن الوافد الجديد يعامل مثل القديم، مما يفقد النضال قيمته الرمزية ويحدث شرخا في ثقافة الانتماء. فحين لا يعرف المناضل ولا يقدر تاريخه، تتحول الممارسة الحزبية إلى مجرد واجهة شكلية بلا ذاكرة ولا هوية.
وينطبق هذا الوضع بشكل أوضح على النساء الحزبيات والشباب، الذين غالبا ما يستحضرون في الخطاب السياسي كقيمة رمزية، دون أن يمنحوا فعلا فرصا حقيقية لتولي المسؤولية أو التأثير في القرار الداخلي. إن ضعف تمثيلية النساء في مواقع القيادة، رغم مرور أكثر من عقد على إقرار المناصفة، يكشف محدودية الوعي التنظيمي بأهمية تنويع النخب وتوسيع قاعدة المشاركة.
3- أزمة الترقية الحزبية — بين الإقصاء والجمود التنظيمي:
تعتبر أزمة الترقية داخل الأحزاب المغربية من أبرز مظاهر ضعف تدبير الرأسمال البشري. فكثيرا ما نجد مناضلين ومناضلات أمضوا أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة داخل الحزب دون أن يحظوا بأي اعتراف أو ترقية، في حين يمكن أن يصعد شخص آخر — رجلًا كان أو امرأة — إلى مواقع القرار بسرعة لاعتبارات ظرفية أو توازنات داخلية لا علاقة لها بالكفاءة أو النضال.
هذا الخلل يخلق شعورًا بالإحباط والإقصاء داخل القواعد، ويؤدي إلى هدر طاقات بشرية ثمينة كان من الممكن أن تسهم في تطوير الفعل الحزبي. فغياب معايير موضوعية للترقية يؤدي إلى ضعف الانتماء المؤسسي، وتراجع الثقة، وتفشي منطق الولاءات بدل منطق الكفاءات.
إن سيادة منطق "أصحاب الشكاير" داخل بعض التجارب الحزبية تكشف عن أزمة عميقة في فلسفة الترقي السياسي. إذ أصبح المال، في حالات كثيرة، يعوض النضال، ويختصر المسار التنظيمي في القدرة على التمويل لا في الكفاءة أو الاستحقاق. يدخل بعض الأثرياء إلى الحزب من الباب الواسع، فيمنحون التزكيات والمناصب دون تكوين سياسي أو تجربة نضالية، مما يفرغ العمل الحزبي من قيمه الأساسية.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الواقع الانتخابي يفرض أحيانًا على الأحزاب الاستعانة بأصحاب الموارد المالية لدعم الحملات وتنشيط التنظيمات. غير أن هذا المعطى لا يجب أن يتحول إلى قاعدة تقصي المناضلين الحقيقيين، لأن الحزب الذي يغريه المال دون أن يوازن بين القدرة المالية والشرعية النضالية يغامر بمصداقيته أمام قواعده والرأي العام.
إن تكافؤ الفرص لا يعني إقصاء ذوي الإمكانيات، بل ترسيخ عدالة تنظيمية تعطي لكل فئة حقها وفق الكفاءة والاستحقاق، مع الحفاظ على التوازن بين التمويل المشروع والجدارة التنظيمية.
ولا يقتصر أثر هذا الخلل على المناضلين القدامى، بل يمتد إلى الأجيال الجديدة، خصوصًا جيل "Z"، الذي بات يرى الأحزاب كيانات مغلقة لا تكافئ الكفاءة ولا تحترم التاريخ النضالي. هذا الجيل يتجه إلى الفضاء الرقمي كبديل للتعبير والمطالبة بالحقوق، حيث أصبحت المنصات الاجتماعية بمثابة " الأحزاب الجديدة " .
فحين يرى الشباب تهميش المناضلين وتكريس الريع السياسي، يفقد ثقته في العمل الحزبي وينأى بنفسه عن المشاركة، ما يهدد مستقبل الوساطة السياسية.
ولذلك، فإن استرجاع ثقة الشباب والنساء معا يقتضي إعادة الاعتبار للمناضلين والمناضلات القدامى، وتكريس ثقافة الاعتراف والتقدير بدل الإقصاء.
4- التحفيز وتقوية القدرات — نحو إعادة إنتاج النخبة الحزبية:
تعد سياسة التحفيز والتأهيل مدخلًا أساسيًا لتدبير الرأسمال البشري الحزبي. فالحزب الذي يكرس التحفيز المعنوي والمادي، ويؤمن بالتكوين المستمر، يخلق دينامية داخلية تنتج نخبًا قادرة على التفكير والإبداع والمبادرة.
التحفيز لا يقتصر على التعويضات أو المناصب، بل يشمل الاعتراف، التواصل، إشراك المناضلين في القرار، وتقدير جهودهم. أما غيابه فيؤدي إلى عزوف الكفاءات وانسحابها، مما يفرغ التنظيم من طاقاته الحية.
إن بناء رأسمال بشري حزبي قوي يمر عبر:
- وضع نظام لتدبير المسار النضالي يعتمد على معايير موضوعية ومنصفة.
- توفير برامج للتكوين السياسي والفكري تراعي حاجيات النساء والشباب وتواكب التحولات المجتمعية.
- خلق آليات للتقييم الدوري والتحفيز المستمر تراعي المردودية والنضال الميداني.
- تثمين العمل القاعدي كمدخل للترقي، لا كمرحلة هامشية.
بهذه المقاربة يمكن للأحزاب أن تنتقل من منطق الولاء إلى منطق الكفاءة، وتعيد الاعتبار للإنسان الحزبي — رجلًا كان أو امرأة، شابًا أو مناضلًا متمرسًا — باعتباره محور الفعل السياسي ومصدر التجديد.
إن أزمة تدبير الرأسمال البشري داخل الأحزاب المغربية ليست مجرد خلل تنظيمي، بل هي أزمة ثقافة سياسية تحتاج إلى ثورة فكرية داخل التنظيمات نفسها.
إن بناء حزب قوي لا يبدأ من القيادة، بل من المناضل والمناضلة والشاب والشابة الذين يشعرون أنهم جزء من المشروع، وأن نضالهم لا يضيع سدى.
فحين يعاد الاعتبار للمناضلين جميعًا، وتستعاد الثقة بين القاعدة والقيادة، يصبح الحزب مدرسة للمواطنة، لا مجرد وسيلة انتخابية عابرة.
إلهام الوادي، أستاذة القانون، باحثة في الشأن المغربي والسياسات العمومية