نبيل عادل قبل أن يرميني القرّاء بالحجارة، أُقرّ وأعترف: نعم، أنا التافه الإِمَّعَة الذي قرّر أن يُبدي رأيه في توحيد خطب الجمعة. تافهٌ لأنّي ما زلت أؤمن أن المنبر ليس منشوراً وزارياً، وإِمَّعَةٌ لأنّي أكرّر ما يقوله الناس في المقاهي لا ما يُملى في المكاتب المكيفة. فأعيروني لحظة من سخفكم، ودعوني أشرح لكم كيف صار الرأي جريمة، والخطبة الموحدة نشرة أخبار مقدّسة.
خُصصت خطبة الجمعة الموحَّدة للحديث عن «مشاركة الشباب في الشأن العام». فكرة نبيلة في ظاهرها، لكنها حين تُلقى على منبر موحَّد، بصوتٍ موحَّد، ونصٍ مفروض من فوق، تتحوّل من دعوةٍ إلى المشاركة إلى تمرينٍ في الطاعة.
فالوزارة الوصية على الشأن الديني ما تزال تؤمن أن بالإمكان «تأطير» الناس من خلال خطب تُكتب في المكاتب المكيّفة وتُوزّع على آلاف المنابر كمنشوراتٍ إدارية، دون أن تدرك أنّ المنبر الحقيقي لم يعد في المسجد بل في الهاتف، وأنّ الجمهور لم يعد يرفع رأسه إلى الخطيب، بل يمرّر بإبهامه على شاشةٍ صغيرة ليختار خطيباً آخر، أكثر صدقاً وأقرب وجعاً.
إصرار وزارة الأوقاف على هذا النمط من الخطابة العقيمة يغلق واحداً من آخر المتنفّسات الشعبية التي كانت تمتصّ جزءاً من الحنق الاجتماعي. فالمنبر، في المجتمعات الحيّة، ليس مجرّد منصةٍ للوعظ، بل مرآة تنعكس فيها توترات الناس وأسئلتهم وقلقهم الوجودي. أمّا في نسخته المغربية «الموحّدة»، فقد صار المنبر جهاز بثّ رسمي بصوتٍ واحدٍ ولونٍ رماديّ، لا يثير جدلاً ولا يوقظ وعياً.
من يظن أنّ ضبط الخطاب الديني يتم عبر التحكم في الخطاب الجمعي داخل المساجد، فهو كمن يحاول إيقاف فيضانٍ بإصبعه: فلا هو أوقف الفيضان، ولا هو حافظ على إصبعه. وزارة الأوقاف في كوكب، والناس في كوكبٍ آخر.
لقد أصبح المصلّي يشفق على أئمةٍ وفقهاءَ أفنَوا زهرة أعمارهم في طلب العلم، لينتهي بهم المطاف على منابر يقرؤون خطباً فُرضت عليهم فرضاً. لم يعد الخطيب يتفاعل مع قضايا حيه أو مدينته أو قريته، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، بل صار صدىً باهتاً لموظفٍ في الرباط يُملي عليه موضوع الخطبة. وهكذا تجد الناس في خميس الزمامرة أو الدشيرة أو كارتي كوبا يقلبون أكفّهم وهم يستمعون إلى خطبةٍ كأن كاتبها هبط من كوكبٍ آخر لا يعرف شيئاً عن حياتهم ولا عن قلقهم اليومي.
ويُروى أن هارون الرشيد، لما حلف على زوجته ألا تبيت في مملكته، أدرك أنه حاصر نفسه بيمينٍ لا مخرج منه، فاستفتى الإمام الشافعي، فأفتاه بأن تبيت في المسجد، لأن بيت الله لا يدخل ضمن حدود أي مملكة.
تلك الحكاية الشعبية القديمة تختصر ما نسيته وزارة الأوقاف اليوم: أن للمساجد حرمةً فوق الممالك، وأن منابرها لا تخضع لسلطة الوزير ولا لبلاغات المندوبيات. فبيت الله ليس ملحقةً إدارية، ومنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منصةً سياسية، بل موعدٌ أسبوعي بين عالمٍ أفنى عمره في طلب العلم ومؤمنين جاؤوا تلبيةً لنداء ربهم، لا للاستماع إلى نشرةٍ تُكتب في الرباط وتُتلى في الدشيرة وبوركون وخميس الزمامرة.
لقد أصبحنا نشفق على علماءٍ حملوا مشعل العلم الشرعي جيلاً بعد جيل، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا بهم اليوم موظفون إداريون يقرؤون نصوصاً لم تخطّها أيديهم، بل أُرسلت إليهم من المندوبيات كتعليمات لا ككلمات. من منبر النبوّة إلى منبر المراسلات، ومن خطاب الوعي إلى خطاب الملل، تهاوت قيمة الكلمة وذبلت روح الدعوة.
ومن يظن أن هذه السياسة قادرة على تحصين الخطاب الديني من الانزلاق، فهو واهم. لأن الشباب الذي لا يجد في المسجد خطاباً يجيب عن أسئلته، سيبحث عنه في فضاءات أخرى، بعضها مظلم وبعضها متطرّف، ثم يعود إلى الفضاء العام أكثر تمرّداً وأقلّ ثقة في المؤسسات التي خذلته. إنها قاعدة اجتماعية بسيطة: إن لم تفتح نافذة للهواء، فسيكسر الناس الجدار.
جيل اليوم ليس كجيل السبعينات أو التسعينات، حين كانت المدرسة والمسجد والتلفزيون تردّد النغمة نفسها. نحن في زمنٍ تتعدد فيه الأصوات والمنصّات، ولم يعد أحد يحتكر المعنى أو الكلمة. فكيف يُعقل أن يظلّ الخطاب الديني الرسمي جامداً في زمن السيولة الرقمية، يتحدث إلى جيلٍ منفتح على العالم بلغةٍ خالية من الحياة؟
لقد تحوّل المسجد، يا للأسف، من فضاءٍ للتنوير إلى فضاءٍ للتلقين، ومن منبرٍ للحوار إلى نشرةٍ أسبوعية تُقرأ على مسامع الناس بفتورٍ مملّ. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: أن نفقد الجيل الشاب لا بسبب الإلحاد أو العلمنة، بل بسبب الملل والرتابة. وحين يفر الشباب من دينٍ يُقدَّم لهم في جرعاتٍ إدارية ميتة، فإن أول من سيدفع الثمن هو الدولة نفسها، لأنّ الفراغ الإيماني لا يبقى فراغاً، بل يُملأ بخطابٍ موازٍ لا يعترف بقواعد اللعبة ولا بسلطة المؤسسات.
الجمعة، يا وزارة الأوقاف، ليست نشرةً رسمية ولا بياناً وزارياً، بل لحظةُ لقاءٍ بين الخطيب والمجتمع، بين النصّ والواقع، بين الإيمان والحياة.
فكفّوا عن كتابة الخطب كما تُكتب المذكرات الإدارية، ودعوا المنابر تنبض بالحياة قبل أن تُصبح، مثل كثيرٍ من مؤسساتنا، شاهدةً على موتٍ بطيءٍ باسم النظام والانضباط.
ولعلّ خروج شباب جيل "زد 212" بتلك الجرأة وتلك الطاقة الاحتجاجية، ليس حدثاً طارئاً، بل نتيجة حتمية لسياسةٍ أفرغت كل مؤسسات الوساطة — ومن بينها المسجد — من أدوارها التأطيرية والتواصلية.
حين يُفرَّغ المسجد من رسالته، وتتحوّل المدرسة إلى جهاز تلقين، وتغدو الأحزاب مكاتب توظيف انتخابي، فإنّ الشارع يصبح هو المنبر الوحيد المتبقي.
جيل "زد 212" لم يولد من فراغ، بل من صمتٍ رسميّ طويلٍ ومؤسساتٍ فقدت وظيفتها الطبيعية في امتصاص القلق، وتحوّلت إلى واجهاتٍ بيروقراطية لا تُرى إلا حين تتلقى التعليمات.
ومن المضحكات المبكيات أن الوزارة المصونة لم تتذكّر موضوع صلاة الجمعة إلا بعد أن خرج الشباب إلى الشارع يهتفون بملء حناجرهم. وكأنها لم تدرك فجأة أهمية المنبر إلا حين صار الشارع نفسه منبراً. فهرولت لتستعيده بخطبٍ باردة، تُقرأ بأفواهٍ جافة على مسامع آذانٍ لم تعد تصغي.
أيّ مفارقة هذه؟ أن تفكّر الوزارة في «تفعيل دور المسجد» بعد أن تحوّل الشارع إلى جمعةٍ كبرى، يهتف فيها شبابٌ أغلبهم جنوحه إلى السِّلم لا إلى الشغب، لكنه سئم الصمت حتى بات يريد أن يخرج مرّةً أخرى... لا تعبّداً هذه المرّة، بل احتجاجاً على من صادر حتى صوته في بيت الله.
وهنا، تزداد الصورة قتامةً حين يصف وزير الأوقاف من يعارضون توحيد خطبة الجمعة بـ «المجرمين». فبدل أن يكون الحوار فرصةً لتقييم سياسةٍ عموميةٍ مثيرةٍ للجدل، تحوّل النقاش إلى محاكمةٍ أخلاقيةٍ للمعارضين. ما قاله السيد الوزير يكشف عن خلطٍ مقلق بين المرجعية الدينية والشرعية الدستورية. فالنواب الذين سألوه لم يكونوا فقهاءً ينازعونه في التأويل الشرعي، بل ممثلي الأمة يمارسون صلاحياتهم الرقابية المكرّسة في الدستور. هؤلاء لا يناقشون "الإمامة الدينية" بل تدبير قطاعٍ عموميٍّ ممولٍ من المال العام، يضم موظفين وميزانيات وخطط عمل تخضع – مثل أي قطاع آخر – للمساءلة البرلمانية.
حين يعتبر الوزير أن من ينتقد خطته «مجرم» لأنه «يمسّ المجلس العلمي الأعلى الذي يمثل إمامة الأمة»، فإنه يُسقط المنطق الديني على فضاء سياسي مدني، فيخلط بين القداسة والمسؤولية. فالوزير، دستورياً، ليس «إماماً» بل عضواً في حكومةٍ تخضع للمساءلة أمام البرلمان. ومن ثمّ، فإن مناقشة «توحيد خطبة الجمعة» أو «تسديد التبليغ» ليست تشكيكاً في الدين ولا في العلماء، بل سؤالاً مشروعاً حول حدود الضبط الإداري للشأن الديني ومدى احترامه لتعدد المرجعيات داخل المجتمع.
باختصار، الوزير نسي أنّه في لجنةٍ برلمانية لا في مجلس إفتاء. والخلط بين المقامين لا يليق بدولةٍ تجعل من الدستور مرجعها الأعلى، لا من تأويلٍ شخصيٍّ لفكرة «إمامة الأمة».
ويا للمفارقة… من يوزّع الخُطب الموحدة على الأئمة من طنجة العالية إلى الكويرة الغالية، عاجزٌ عن تقبّل سؤالٍ برلمانيّ بسيط! من يطالب الأئمة بالإنصات والانضباط لا يحتمل أن يُنصت هو لأسئلة ممثلي الأمة. كأنّ الوزارة تُريد خطباً تُتلى لا تُناقَش، وأئمةً يُبلّغون لا يُفكّرون، وبرلماناً يُصفّق لا يُحاسب.
منطق يجعل من النقد جريمة، ومن المساءلة تمرداً، ومن النقاش تهديداً «لإمامة الأمة». لكن الحقيقة البسيطة التي يبدو أن الوزير نسيها هي أن من يملك سلطة القرار لا يملك بالضرورة صواب القرار. فبيت الله لا يحتاج ترخيصاً ليُسمع صوته، والمنبر ليس ملحقاً إدارياً بوزارة الأوقاف، والخطيب لا يُختصر في فقرة تُكتب في الرباط وتُوزّع على الأقاليم كما تُوزّع مذكرات المساطير والإجراءات.
لقد تحوّل الخطاب الديني الرسمي إلى صدى بعيد في فضاءٍ رقمي مفتوح، لا يسمعه أحد إلا مجاملةً أو عادةً. والأنكى أن من يتوهّم أنه يضبط الكلمة لا يدري أن الناس وجدوا منابر أخرى، أوسع من المسجد وأصدق من الخطبة: الشارع والفضاء الرقمي، حيث لا تُراجع الكلمات قبل النشر، ولا تُؤذن الآراء بترخيص.
د نبيل عادل، أستاذ باحث في الاقتصاد والعلاقات الدولية، عضو المجلس الوطني للحركة الشعبية