لا يسعني سوى التنويه والإشادة بالاجتماع الذي انعقد منذ أيام بالقصر الملكي، وجمع بعض مستشاري الملك ووزيرين معنيين مباشرة بموضوع الحكم الذاتي مع قادة الأحزاب الممثلة في البرلمان، فهو ممارسة سياسية راقية.
هي ممارسة ليست جديدة، كما قد يتبادر إلى ذهن البعض، ولم تفرضها الظرفية ولا الأهمية الوطنية العظمى للموضوع فقط، بل هي من سمات "أسلوب حكم" الملك محمد السادس.
ففي القضايا الكبرى ذات البعد الاستراتيجي أو المصيري، يلجأ الملك إلى رأي الفعاليات الوطنية من أحزاب وغيرها، المعبرة، عموماً، عن توجهات الرأي العام والشعب في نهاية المطاف.
يحدث هذا وتُمارس هذه السلوكيات السياسية المتقدمة (مقاربة تشاركية بمعنى ما) للمرة الرابعة على ما أتذكر:
- الأولى، خلال صياغة الدستور الجديد سنة 2011، عندما طلب الملك من الأحزاب ومنظمات أخرى مذكرات مدققة تتضمن مقترحاتها لتعديل الدستور.
- الثانية، حين قرر الملك بلورة نموذج تنموي جديد، فكوّن لجنة تلقت مذكرات حزبية وجمعوية واشتغلت عليها، إضافة إلى لقاءات مباشرة في عدد من جهات المملكة.
- الثالثة، عندما قرر تعديل مدونة الأسرة وطلب آراء مختلف مكونات المجتمع من فعاليات سياسية ومدنية وعلمية ودينية.
واليوم يطلب مذكرات مدققة حول تنفيذ الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية الصحراوية للمملكة.ليس هذا السلوك بجديد إذن، ولم تفرضه الظروف بما هو ممارسة سياسية وأسلوب حكم، بل ما فرض هو الموضوع نفسه: الحكم الذاتي.
طيب، وما أهمية ذلك؟ هل سيتم الأخذ فعلاً بمضامين المذكرات التي ستقدمها الأحزاب، أم هي مجرد استشارة شكلية ولأغراض دعائية (كما سيقول أولئك الذين تكلم عنهم حسن الفذ: "هادي دولة؟ هادي دولة؟!").
الأمر يتعلق بجدية وقوة المقترحات التي ستقدمها الأحزاب السياسية، وبوجود مقترحات مدققة وعملية، وليس مجرد شعارات وعناوين عامة. والأمر يتعلق في نهاية المطاف بجدية الأحزاب ومدى هذه الجدية.
وهنا، فالأحزاب فيها وفيها:
أحزاب جدية وجادة، أي أحزاب بمعنى الكلمة، لها تصورات مسبقة حول الموضوع المطروح منذ سنوات، ولها مقترحات، وما عليها اليوم سوى صياغة ما راكمته من مواقف وآراء ومقترحات عبر لقاءات فكرية وسياسية وبيانات وأعمال مؤسساتها الموازية (وأعرف عن قرب شديد حالة من هذا النوع من الأحزاب، هي حالة حزب التقدم والاشتراكية)، مع التحيين طبعاً مواكبةً للمستجدات.وهناك أحزاب جدية لكنها لا تملك سوى شعارات عامة وعناوين كبرى ومطالب غير دقيقة وغير مفصلة، وهذه الأحزاب لن تقدم، على الأرجح، ما يمكن أن يؤثر فعلاً في المذكرة النهائية التي سيقدمها المغرب إلى الأمم المتحدة، لأن الشعارات الكبرى ليست مفيدة كثيراً في صياغة مذكرة مفصلة ومدققة بإجراءات عملية مقنعة.النوع الثالث من الأحزاب، وهي "اللا أحزاب" عملياً، مجرد تجمعات لمنتخبين أو الراغبين في أن يكونوا منتخبين وأتباعهم، وإطارات تمنح التزكيات للانتخابات.
هذا النوع من الأحزاب يملك المال على العموم، وسيلجأ إلى مكاتب دراسات لـ"شراء" مذكرة، ستكون عموما.خالية من الروح السياسية التي تتطلبها مذكرة من هذا القبيل، إذ تحتاج إلى تفاصيل وتدقيقات ضمن روح سياسية في نهاية المطاف.
هذه الروح لا يمتلكها من لا يمارس السياسة فعليا، وبالتالي تكون غائبة عن مكاتب الدراسات ذات الطبيعة التقنية، التي يمكن أن تقدم معطيات تاريخية أو تقنية أو مقارنات مع تجارب أخرى، لكنها لا تقدم تصورا سياسيا يستفيد من هذه المعطيات.في الأحزاب السياسية الجادة توجد أطر كفؤة تقنياً وسياسياً، عكس ما يُروَّج من طرف البعض، بل عالية الكفاءة، تربط بين معارفها المتعددة، ومنها التقنية والتصور السياسي المستفيد من هذه المعارف.
وفي أحزاب أخرى توجد كفاءات تقنية، لكن بدون تصور سياسي، والربط بينهما ضروري في مجال سياسي بامتياز.
وللمشككين في أهمية ما ستقدمه الأحزاب وتأثيرها في الصياغة النهائية لمذكرة المغرب، أقول إن دستور 2011 أخذ محرروه كثيراً من مقترحات الأحزاب السياسية المتضمنة في مذكراتها، أو المعبر عنها من طرف قادتها داخل اللجنة التي كانت مكلفة بالموضوع.
وفي صياغة النموذج التنموي الجديد، أخذت اللجنة المكلفة عدداً هاماً من المقترحات المتضمنة في مذكرات الأحزاب (الجادة والجدية مرة أخرى)، وما عبّر عنه وفود الأحزاب في لقاءاتها المباشرة مع لجنة الصياغة.
أما فيما يخص مدونة الأسرة، فمذكرات الأحزاب والمنظمات الأخرى ستكون فائدتها في التعبير عن التناقضات التي تخترق المجتمع لطبيعة الموضوع الحساسة جداً، وستكون مهمة لجنة الصياغة إيجاد توازن وحلول وسط بين آراء متناقضة.
المذكرات ليست بدون جدوى إذن، والجدوى مرتبطة بجدية من يقدمها وماذا يقدم فيها.
تبقى مسألة المدة الزمنية القصيرة المحددة للأحزاب لتقديم مذكراتها، والتي يندها البعض باعتبارها غير كافية..
في تقديري، هي كافية للأحزاب الجادة والجدية، لأن المطلوب فقط هو صياغة وتحيين ما تراكم لديها من تصورات ومقترحات ومعطيات، وهي تشتغل على الموضوع منذ أن طُرح، ودورها هو متابعة القضايا الكبرى وتجميع المعطيات حولها.أما أحزاب الشعارات العامة والمطالب العمومية، فستجد فعلاً صعوبة، لأن الشعارات الكبرى والأفكار العامة لن تفيدها في صياغة مذكرة حقيقية بأفكار ومقترحات عملية.
أما "اللا أحزاب" التي تُسمى مع ذلك أحزاباً سياسية، فلها مكاتب دراسات، ومذكراتها ستكون دون جدوى على الأرجح، لأن الدولة لها من هو أكفأ من العاملين في هذه المكاتب، علاوة على أنها يمكن أن تلجأ إليهم مباشرة دون وساطة "أحزاب".