السي إدريس بلعطار... زجال "ولاد حمر" الوفي للمدن السفلى

السي إدريس بلعطار... زجال "ولاد حمر" الوفي للمدن السفلى

بلعطار إدريس مدرسة متفردة في ترويض الحرف والكلمة العميقة ، ينسج قصائده الزجلية من منتوج زريبة الخير ويسقيها بماء البئر المعتق بعبق التاريخ ، صانع لحظات الفرح والألق الإنساني بامتياز ، ينجذب إليه بإبهار المتلقي لقصائدة الشعرية ذات البعد العميق من المجتمع العميق ( المجتمع الرعوي والزراعي )بصوته القادم من تخوم القبيلة الحمرية ، يمتح من ينبوع الصفاء الممتد من الماء إلى الماء ، ويتسلق بعزيمته وإرادته جبال الوطن الشامخة ليحفر عن جذور اللغة ومفرداتها الجميلة ، ليناسب النسيب المفتول غزلا بأنامل الأمومة الطاهرة ، الأم الامازيغية المغربية البربرية بكل تفاصيل نبضها ونبض قلبها المفتون بعشق الوطن ، فعلا شاعرنا الحمري رضع من ثدي حليب الأرض الحمرية وامتشق سلم الإيقاع بكل موازينه التراثية لأنه ببساطة ذلك الرجل السميع والملتقط لنبضات الثقافة الشعبية المتتبع لإبداعات المجموعات الغنائية التراثية ( شيوخ العيطة / عبيدات الرمى / العيساوي ولكناوي .....وفن الحلقة ) ولتكريم الرجل ارتأت أنفاس أن تنشر قراءة في مساره الإبداعي من خلال ورقة الأستاذ عبد الإله رابحي أدناه :

قراءة في تجربة بلعطّار الزجلية

الذات / المكان / الأشباه

ولأن الرجل ولادة وطبعا من منطقة " ولاد أحمر" بجغرافيتها وتاريخها الموغلين في القدم، ولأن انتماءه ونسبه كان للمدن السفلى الميسورة بتربتها ، المعوزة بذويها ، الميسورة بريعها ، المعسورة بأهلها ، ولكنها المتخمة بحب الوطن ، المشبعة بروح الهوية ، المعطرة برائحة العرق والتراب ، المرسومة بأوشام التجاعيد وتشقق الأقدام ، ولأن سبيل السلالة يحمل إصرار الافتخار بالذات حتى في نضوبها ، وترديد نشيد الجراح في الثنايا والصدح بالألم الموروث، ذاك الذي لا يفصل بين تاريخ المعاناة وحاضرها، والذي أيضا لا يرى أفقا لنشدان ما ، ولا خيطا أبيض من أسود ، ولأن الوفاء شيمة الجدّ الأول القادم من تخوم الشرق البعيدة مهوى الأغلال ، تلك التي سمّتها عيوط  " أم هاني" ، في لحظة من لحظات تعبيرها البراق ، ورغبتها الملحة في الحرية والإنعتاق ، سمّتها " تحرير اليد اليسرى" كي تستجيب لمكنون الطفل الذي كانه إدريس بلعطار ... أ لأنّ اليد اليمنى لا تستحق القصيدة ، أم لأن اليد اليسرى اختارت العسر ضدّا على كل أشكال الأسر، ألم يصدح الطفل في صاحب القصيدة حين قال: 

گالها موّال 

بمقام هبال

على حلمة مكسحة 

مابغات تمحى 

سكنات البال 

كعقلان الصغر 

 ولأن القصيدة كانت دوما صدى الجراح القديمة ، انسابت شلاّلا يوزع ما تبقى من أمان كانت مسوغا للحياة ، وتأكيدا للاستمرار في مكابدة أشواك الطريق ، وجزر الرفيق ، وسؤال المعيش يزداد غورا كلما حاولت روح الإبداع الشعبي الكشف عن نتوءاته ، فيعيد لنا إدريس بلعطار ما جدّدت فيه القصيدة الأندلسية استجابة لمنطق النكبة زمن" بني الأحمر" في إطار ثورتها على الصدى المشرقي من رثاء المدن وأشعار الإستغاثة حين يقول :

الشماعية المنسية 

يا قصيبة سايبة مسبية 

ياروضة حية منسية 

ليا وليك عشور الليل سدر 

شطابة وقاع بحر 

نخاف يضيع نيشانو 

لهذا ولغيره مما تحبل به الذات المكلومة كانت القصيدة البلعطارية بلون رماديّ أغبر وب" سالف لعيد " الأشعث ، يقول : 

يمكن من الليل مع النهار تگاد 

واللون الرمادي عاد

لون البكا 

ولون لعياد 

لون الغلب 

ولون النكسات 

بقدر ما تنجلي كشفا مساء بقدر ما تزداد حلكة ويزيدها ظلاما صوته المبحوح إيقاعا شجيا للنفس المكتوم ، لم تكن غاية الزجّال تقديرا أن يكتب القصيدة البنية فقط بل أن يكتب أزجالا تستمدّ منابعها وأصولها من أشباه له مضوا مسكوت عنهم في تاريخنا سكنوا خاطره فقال عنهم :

 ياناسي

شهادتي ليكم وشهادتي تلگاني 

للروح عمر ثاني 

وكاس بيه نسحى وبيه نسكر 

هاجت فايضة بيه لمعاني

هي الأبعاد الثلاثة : الذات/ المكان / الأشباه التي تنتشر أفقيا داخل تجربة بلعطّار الزجلية بين الخط الطبيعي والخط الوجداني ، وهي ما يخلق آخر المطاف هذا النفس الروحاني للقصيدة ، أو ما أسماه بحق" فتوح الرحبة" 

ملوكك هاذي 

شحال هي معنادة 

وشحال حالها حامي 

يا لكافرة وشحال هواس

وهو ما يشكل الربط المحكم بين الطبيعي والإحساس بهذا الطبيعي ، والذي يجعل اللفظة داخل القصيدة تحصن ذاتها ، ولا تقبل مرادفتها ولا تمنح ذاتها بسرعة للتأويل ، وكأني بها كصاحبها تخشى المسخ تزنيبا ، فالاستعارة لديه مأخوذة من واقعه الطبيعي في أرضه السفلى لأنه ببساطة يعيش الأشياء بأسمائها الأولى ، ويمنحها فرصة أن تلهج بلغتها الطبيعية ، والتي سميناها بلغة أخرى"العامية" ، وكأن هناك لغة " الخاصية " ، ورتبناها ، نحن المهووسون بالترتيب ، وقلنا لها " أنت لست لغة التمدن، أنت لست لغة الحضارة ، أنت لغة سفلى" ، فكانت كذلك لغة سفلى لأرض سفلى لكائن أسفل يحتفي بعلاقته الطيبة بالأشياء فيقول :

الدي دندان 

حلو گطران 

كالزعتر يحرار 

وفالشهدة يحلى دوگانو

يغزل اللغة من نسيج معيشه فيمنحها بيئتها الطبيعية حتى تصبح القصيدة الامتداد الطبيعي لما هو خارجي، إذ لا وجود لانزياح إلا لما هو منزاح أصلا ، يصوغه الزجال"عيوطا " كان ل "أم هاني" فضل تحريرها من عقالها ، فك أيسرها ليكون للجسد الحق في التعبير دون زيف عن صدق الكلمة الموزونة :

عطار فدروب الكلام 

أنا جلت وتساريت

والكلمة عطرية 

بها برحت وناديت

تتزود القصيدة من خيمياء السوق السفلي لتبطل مفعول الأفعال الدنيئة للقوى الشريرة ، فتتسلح بالملح ودق الهاون ورائحة البخور :

جاب الله 

لگات مهيريز النفقة 

عاد سلا من دگان

ولگاتني مازال 

نسقي فعويدات الريحان

فيتحول بلعطّار إلى عطّاريحاول إصرارا إصلاح ما أفسده الدهر علّ القصيدة تتحوّل إلى فعل إخصاب يحارب العقم ويسرّع وثيرة الإنجاب :

خزامت لحروف ف شواريا

من عرسة لحلام مجنية

حظيتها م لغدر

ومن گلوب "خزيت " .

من كل ما تقدّم نخلص إلى ثلاثة خصائص تطبع القصيدة البلعطارية

1 ـ الامتداد الطبيعي للقصيدة : البداية المعلومة لدى القارئ ، والمسكوت عنها في القصيدة ، وكأني بالزجال ينطلق من نقط حذف تثير وعي السامع ، إذ مقدمة القصيدة ملتقى اللاوعي الجمعي ، لا تنطلق من الصفر لتؤسس ذاتية الشاعر كما هو الحال في قصيدة " الفصيح " :

(...) جاب الله 

والله جا من جهة لحروف 

فقهت قبل ما يطيح

باطل الشوف

2 ـ التناسل الصوري: ولادة الصورة اللاحقة من جوف الصورة السابقة ، فتتدرج الصور متلاحقة ومشكلة للاستعارة المركبة تبني بها التفاصيل الصغيرة ، تلك التي تعجز عن رصدها قصيدة  الفصيح :

راه الكلمة بنت مگاز 

المگاز رعاتو حلمة 

الحلمة خطاها منگاز 

المنگاز عودو من ما 

الما وادو سكوتي

3 ـ غياب التأويل المحلي : نسج القصيدة بشكل يستعصي معه اختراقها تأويلا ، حيث لا يترك الزجّال أي منفذ فارغ يخوّل النفاذ لعمق القصيدة مما يمنعها عن المعنى الواحد والمفضوح ، ويفتحها في الآن نفسه على التعدد الذي يحبل به الواقع ، ويدرأ عنها المعنى الأحادي الذي تملكه الذاتية المفرطة لقصيدة الفصيح

بكل هذه الخصائص مجتمعة تحتفي قصيدة بلعطار بالأسفل وقيمه ، بجوعه وعفته :

اسمح ف المزروعة

إلا الخاطر مفگوعة 

وقطر بالريق وتعشا بيه 

يا راسي 

إلا راسك مرفوعة