تمهيد:
مغرب الإقلاع ومغرب الانتظار
من يتأمل المشهد المغربي اليوم، يلحظ بوضوح مسارين متوازيين لا يلتقيان إلا عرضا مغرب يتحرك بسرعة الدولة الحديثة بخطى واثقة في إنجاز المشاريع الكبرى وتطوير البنيات التحتية وتعزيز الجاذبية الاقتصادية ومغرب آخر يسير بإيقاع الانتظار ما يزال يبحث عن نصيبه من التنمية والعدالة الاجتماعية.
فبين مدن كبرى تنبض بالحيوية وتعرف دينامية حضرية واقتصادية غير مسبوقة، ومناطق داخلية ترزح تحت وطأة البطالة والترييف وضعف الخدمات، يتكرّس واقع "المغرب بسرعتين" الذي أصبح عنوانًا دالًا على اختلال التوازن المجالي والاقتصادي.
هذه المفارقة، التي نبّه إليها جلالة الملك في أكثر من خطاب، ليست توصيفًا ظرفيًا بقدر ما هي تشخيص دقيق لخلل بنيوي يمسّ جوهر النموذج التنموي والسياسي على حد سواء فبينما تمضي الدولة برؤية استراتيجية متكاملة، تمتد من التخطيط الاقتصادي إلى الحضور الدبلوماسي، تتباطأ القوى السياسية والمؤسسات الوسيطة في مجاراة هذا الإيقاع، فتغدو عاجزة عن تحويل الرؤية المركزية إلى فعل مجتمعي منتج
إنّ الفجوة بين سرعة الدولة وبطء السياسة لم تعد فقط مؤشّرًا على ضعف الأداء الحزبي، بل صارت تعبيرًا عن أزمة في الوساطة، وعن غياب قدرة الطبقة السياسية على أن تكون شريكًا حقيقيًا في بلورة مشروع وطني متوازن ومستدام.
سرعة الدولة: الرؤية الاستراتيجية والذكاء الدبلوماسي
من الإنصاف القول إن المغرب الرسمي، بقيادة المؤسسة الملكية، أبان عن قدرة استثنائية على التحرك وفق منطق استراتيجي متكامل، يستند إلى وضوح الرؤية وحُسن تدبير التحولات الإقليمية والدولية.
فالمشاريع المهيكلة الكبرى – من ميناء طنجة المتوسط إلى القطار فائق السرعة، ومن رهانات الطاقات المتجددة إلى– التحول الرقمي والتموقع الصناعي الجديد ليست مجرد أوراش مادية، بل تعبير عن إرادة سيادية في إعادة رسم موقع المغرب داخل الخريطة الجيو-اقتصادية العالمية.
لقد تحولت الدبلوماسية الملكية في العقدين الأخيرين إلى مدرسة في الفعل السياسي الرصين والاستباق الاستراتيجي، تجمع بين ثوابت المبدأ ومرونة الحركة، وبين الدفاع الصلب عن القضايا الوطنية – وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية والانفتاح الذكي على الفضاءات الإفريقية والأوروبية والآسيوية.
وما يميز هذه المقاربة هو أنها لا تشتغل بردّ الفعل، بل بمنطق الرؤية الاستباقية التي تستثمر في الزمن السياسي الطويل، حيث تتكامل الدبلوماسية مع الاقتصاد، ويتقاطع الأمن مع التنمية، في صيغة تجعل من المغرب فاعل استقرار إقليمي ووسيطًا مقبولًا في محيطه الجيوسياسي.
بهذه السرعة في التفكير والفعل، استطاع المغرب أن ينتقل من موقع المتأثر إلى موقع المؤثّر، وأن يعزز حضوره في المنتظم الدولي كدولة تجمع بين رصانة القرار السيادي والذكاء البراغماتي في قراءة التحولات العالمية.
بطء السياسة: الأزمة البنيوية للأحزاب والنخب
في مقابل هذه الحيوية التي تطبع أداء الدولة ورؤيتها الاستراتيجية، يقف المشهد السياسي الداخلي وقد غلب عليه الركود وضبابية الأفق وضعف الخيال الجماعي.
فالأحزاب، التي كان يُفترض أن تشكل الجسر الطبيعي بين المواطن والدولة، وأن تكون فضاءً لتأطير الطاقات وصياغة البدائل، تحولت في الغالب إلى آليات انتخابية موسمية، لا تستيقظ إلا مع اقتراب الاستحقاقات، لتغرق بعد ذلك في سباتٍ تنظيمي وفكري طويل.
لقد أنتج هذا الانكماش الحزبي انفصامًا في الإيقاع السياسي فبينما تتحرك الدولة بمنطق الرؤية الاستراتيجية والتخطيط البعيد المدى تتحرك الأحزاب بمنطق التكتيك والارتجال والبحث عن التموقع.
وهكذا، بدل أن تكون الأحزاب قوة اقتراح ومواكبة، أصبحت في كثير من الأحيان صدى للخطاب الرسمي أكثر منها فاعلًا في صناعته، مما جعل السياسة تبدو في نظر المواطن مجرّد مشهدٍ مكررٍ بلا رهانات حقيقية.
والأخطر من ذلك أنّ جزءًا من النخب الحزبية انغلق داخل دائرة الزعامة التقليدية والمصالح الشخصية، متشبثًا بالكرسي أكثر من تشبثه بالمبدأ، وبالرمزية أكثر من التجديد وبهذا فقدت السياسة جوهرها التربوي والتأطيري، أي قدرتها على إنتاج وعي جماعي وتحريك المجتمع نحو الفعل المدني المنظم.
إننا أمام ما يمكن تسميته بوضوح بـ التفاوت السياسي البنيوي دولةٌ تفكر في أفق الوطن والمستقبل، وأحزابٌ تشتغل في أفق الولاية الانتخابية والمصلحة العاجلة دولةٌ تشتغل بمنطق المشروع، وأحزابٌ تشتغل بمنطق البقاء.
المفارقة المزدوجة: دولتان وسرعتان
إنّ الحديث عن مغرب بسرعتين لم يعد يقتصر على الفوارق المجالية بين المدن والمناطق، بل أصبح يعكس في عمقه تفاوتًا بنيويًا داخل المنظومة السياسية نفسها فالمسألة لم تعد مجرد تباين بين الشمال والجنوب، أو بين المركز والمحيط، بل صارت تجسيدًا لثنائية أعمق ثنائية الدولة الحديثة مقابل المؤسسات الوسيطة المتقادمة.
من جهة، يبرز المشروع الملكي كرؤية استراتيجية متماسكة تقوم على الاستمرارية والتخطيط البعيد المدى وتتحرك وفق منطق الدولة – الأمة، الذي يربط التنمية بالسيادة والمواطنة بالكرامة والموقع الإقليمي بالدور الدولي
ومن جهة أخرى نجد المنظومة الحزبية والجماعية تعاني من ضعف التأطير، وغياب الجرأة الفكرية في طرح البدائل، وافتقارٍ مزمن إلى الكفاءة في تدبير الشأن العام.
لقد أفرز هذا التباين ازدواجية في القيادة السياسية قيادة استباقية تمتلك أدوات الرؤية والتقدير الاستراتيجي، وتتحرك في أفق الدولة والمصلحة الوطنية، في مقابل قيادة تمثيلية محدودة الأفق، غالبًا ما تكتفي باستنساخ الخطاب الرسمي دون القدرة على تحويله إلى برامج اجتماعية وميدانية.
وهكذا، تحوّل التفاعل بين “القيادتين” إلى علاقة أحادية الاتجاه؛ تنتج الدولة التصور وتمنح الإيقاع، بينما تكتفي الأحزاب بالاستهلاك والمواكبة الشكلية.
إنّ هذا الوضع لا يعكس فقط ضعف الوساطة السياسية، بل يكشف عن خلل في التوازن المؤسسي بين من يملك الرؤية ومن يُفترض أن يترجمها على الأرض فحين تغيب الحيوية عن الفاعل الوسيط، تصبح الدولة مضطرة لملء كل الفراغات وهو ما يثقلها بوظائف لا يمكن أن تنهض بها وحدها مهما بلغت فعاليتها.
الثقة المفقودة: حين يبتعد المواطن عن السياسة
تُترجم هذه الازدواجية البنيوية، بين سرعة الدولة وبطء السياسة، إلى أزمة ثقة متفاقمة بين المواطن ومؤسسات الفعل السياسي.
إنّ الديمقراطية لا تُختزل في صناديق الاقتراع ولا في النصوص الدستورية، بل تقوم أساسًا على وجود نخب وسيطة تؤمن برسالتها المجتمعية، وتعمل على ربط المواطن بالشأن العام من منطلق المصلحة الوطنية لا المصلحة الفئوية أو الشخصية فحين تتحول السياسة إلى مجال للصفقات بدل أن تكون فضاءً للقيم، وحين تضعف الأحزاب في إنتاج الخطاب المعبّئ والبرامج المبدعة تصبح المشاركة عبئًا لا قناعة، وتغدو الانتخابات طقسًا إداريًا أكثر منها فعلًا ديمقراطيًا حيًا.
وهكذا تتجلى المفارقة الكبرى في المغرب المعاصر تقدّم مادي وهيكلي واضح، يقابله تراجع في منسوب الثقة والتمثيلية.
فبينما تتحرك الدولة لتشييد البنى والمشاريع، تتراجع السياسة في قدرتها على بناء الإنسان والمواطنة الفاعلة إنها مفارقة تضع المغرب أمام سؤال جوهري كيف يمكن أن تُثمر التنمية بدون ديمقراطية حقيقية تُعيد للسياسة معناها، وللمواطن مكانته في صناعة القرار؟
نحو تجاوز المغرب بسرعتين: تجديد النخب وبناء التوازن
إنّ تجاوز الازدواجية البنيوية بين سرعة الدولة وبطء السياسة يقتضي قبل كل شيء إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين القيادة والرؤية.
فالدولة في المغرب أثبتت قدرتها على هندسة المشاريع الكبرى، وصياغة استراتيجيات تنموية بعيدة المدى، غير أنها في حاجة إلى شركاء سياسيين ومؤسساتيين يمتلكون الكفاءة والمشروعية الفكرية القادرة على ترجمة تلك الرؤى إلى فعل يومي يلامس حياة المواطنين.
من هنا تبرز ضرورة تجديد النخب الحزبية وتخليصها من منطق التوريث الانتخابي والزعامة المزمنة، لصالح نخب مؤهلة فكريًا وتنظيميًا، تمتلك ثقافة الدولة وتشتغل في أفق الوطن لا الحزب كما أن دمقرطة الفعل السياسي من الداخل تمثل شرطًا حاسمًا لبعث الثقة في المؤسسات إذ لا يمكن لحزب يفتقد الديمقراطية الداخلية أن يسهم في ترسيخها وطنيًا.
وبموازاة ذلك، يصبح تفعيل الجهوية المتقدمة واللامركزية الحقيقية ضرورة لا اختيارًا فالتنمية العادلة لا يمكن أن تُدار من المركز وحده، بل ينبغي أن تكون ثمرة تدبير ترابي تشاركي يُمكّن الجهات والجماعات من سلطة القرار، ومن إمكانيات التنفيذ والمساءلة.
أما على المستوى الثقافي والسياسي الأوسع، فإنّ الرهان الأكبر يتمثل في إعادة بناء الثقة في السياسة، عبر مصالحة الخطاب بالفعل واستعادة القيم الأخلاقية التي تجعل من المصلحة العامة بوصلة كل ممارسة.
فمن دون هذه القيم، ستظل السياسة حبيسة منطق الغنيمة لا منطق الخدمة، وستبقى الفجوة قائمة بين دولة تسير بثقة إلى الأمام، وسياسة ما تزال تلتفت إلى الوراء.
خاتمة: من السرعتين إلى التوازن الوطني
إنّ الخروج من مغرب بسرعتين ليس مجرد طموحٍ تنموي، بل رهانٌ وجوديّ من أجل بناء دولةٍ متوازنةٍ بين الحداثة والمواطنة.
فلا يمكن لأي مشروعٍ وطني أن ينجح ما لم يتحقق التناغم بين سرعة الدولة وسرعة المجتمع، وما لم يتوافر توافقٌ خلاق بين الرؤية الاستراتيجية والفاعل الحزبي القادر على تجسيدها ميدانيًا.
وحين تتوحد السرعتان وتتعاضد الإرادتان – إرادة الدولة وإرادة المواطن – يصبح بالإمكان أن ينتقل المغرب من منطق الإصلاح المتقطع إلى منطق النهضة المستدامة، ومن دولة المبادرات المنعزلة إلى مجتمع الشراكة السياسية والتنموية الحقيقية..