مراد علمي: المسيرة الخضراء.. العبقرية، النبوغ والعمل الدؤوب

مراد علمي: المسيرة الخضراء.. العبقرية، النبوغ والعمل الدؤوب مراد علمي
في سياق تاريخي حافل بالتحديات، وبعد سنوات من الاستعمار لجزء عزيز من التراب المغربي، برزت عبقرية الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، لكتابة صفحات التاريخ المعاصر. لم تكن المسيرة الخضراء مجرد مسيرة سلمية، بل كانت استراتيجية فذة جمعت بين حكمة الدبلوماسية وجرأة الإرادة قصد استكمال الوحدة الترابية للمملكة.
 
في عام 1975، يعني قبل 50 سنة، أعلن الملك الحسن الثاني عن تنظيم "مسيرة خضراء" سلمية نحو الأقاليم الجنوبية، مستلهماً الروح الوطنية ومستنداً إلى رأي محكمة العدل الدولية الذي أكد على وجود روابط بيعة وولاء بين سكان هذه المناطق وسلاطين المملكة المغربية. كانت الفكرة جريئة وغير مسبوقة: كيف لـ 350 ألف مواطن ومواطنة، مسلحين بالإيمان والعزم، بصور الملك والقرآن الكريم، أن يتحدوا منطق القوة ويحرروا أراضيهم بسلاح عفوي وبدون عنف.
 
منذ البداية، لم تكن هذه المسيرة عملاً عفوياً، بل كانت مخططاً محكماً أظهر عبقرية الحسن الثاني الاستراتيجية. لقد أحبطت هذه الخطوة جميع المناورات والمؤامرات، ووضعت العالم أمام حقائق تاريخية وقانونية مشروعة، وقدمت نموذجاً فريداً للنضال السلمي الذي يدرس إلى اليوم، شبيه بتحرير الهند على يد ماهاتما غاندي، قاهر الإمبراطورية الإنجليزية بطريقة سلمية وبدون عنف البنادق.
 
في صبيحة يوم 6 نونبر 1975، انطلقت قوافل المتطوعين والمتطوعات من مختلف مدن المغرب وقراه، يحملون القرآن الكريم ويرفعون الأعلام الوطنية، قلوبهم مفعمة بالإيمان والحماس. كان مشهداً مهيباً وملهما جسد الوحدة الوطنية في أبهى صورها. لكي يؤكدوا انتماء الصحراء إلى المملكة المغربية، هذه المسيرة السلمية كانت أقوى من أي جيش وأقوى من أي عتاد عسكري. لقد خلقت واقعاً جديداً أجبر الطرف الإسباني على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، والتي توجت بتوقيع "اتفاقية مدريد" التاريخية في 14 نوفمبر 1975، والتي بموجبها انسحبت إسبانيا من المنطقة وسلمت إدارتها للمغرب. وهكذا تُعد المسيرة الخضراء إرثاً خالداً في ذاكرة الأمة المغربية. لقد علمت العالم أن إرادة الشعوب عندما تقترن بحكمة القيادة والعبقرية، تصنع المستحيل. كانت درساً في أن السيادة لا تُسترد بالضرورة بالسلاح، بل يمكن أن تُسترد بالإيمان والوحدة، التخطيط المحكم والرؤية المتبصرة.
 
لقد رسخ الملك الحسن الثاني، من خلال هذه الملحمة، مقاربة فريدة في حل النزاعات، جعلت من المغرب نموذجاً ملهما للدولة التي تحافظ على حقوقها التاريخية بكل حكمة وثبات. ولا تزال المملكة المغربية، تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، يحافظ على هذا الإرث، حيث حظيت الأقاليم الجنوبية بأولوية قصوى في مسار التنمية الشاملة والمستدامة، تجسيداً لرؤية جلالته الإستراتيجية الرامية إلى تعزيز الوحدة الترابية من خلال إرساء نموذج تنموي ملموس يحقق الازدهار والاستقرار، كما أولى جلالة الملك محمد السادس عناية فائقة لتطوير البنى التحتية في الأقاليم الجنوبية، حيث تحولت مدن مثل العيون والداخلة وبوجدور إلى ورشات مفتوحة وهكذا تم تحقيق قفزات نوعية.
 
يمكن ذكر تشييد الطريق السريع "الطريق الوطني رقم 1"، بناء ميناء الداخلة الأطلسي، وتطوير مطاري العيون والداخلة لجعلهما محطتين دوليتين قصد تشجيع الاستثمار والسياحة، يُعتبر النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، الذي أطلقه جلالة الملك، بمثابة خارطة طريق شاملة ومخطط استراتيجي غير مسبوق بغلاف مالي هائل تجاوز 77 مليار درهم. أما على المستوى السياسي، تنعم الأقاليم الجنوبية، كباقي جهات المملكة، بنظام اللامركزية، والحكم الذاتي الذي توج أخيرا باعتراف صريح لطرح المملكة المغربية في 31 أكتوبر 2025 من قبل مجلس الامن للأمم المتحدة، لصنع من الوحدة الترابية وحدة بشرية تعزز يوما بعد يوم التلاحم والاخاء بغية ضمان مستقبل أفضل ومشرق للأجيال القادمة، حيث سيكون النجاح نجاحا جماعيا، والسعادة سعادة مشتركة، كما ستصبح المنطقة جاذبة للاستثمارات التي ستضمن الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي.
 
وتطور موقف مجلس الأمن يعكس انتصاراً للرؤية الاستراتيجية للملك محمد السادس. لم يعد النقاش الدولي يدور حول "إذا" كانت الصحراء مغربية، بل حول "كيف" يتم إدارة حكمها الذاتي في إطار السيادة المغربية. إن الإجماع الدولي المتزايد حول هذا المسار، مع الاعتراف المتلاحق للعديد من الدول بالسيادة المغربية، يؤكد أن القرار الأممي يسير في اتجاه يتوافق تماماً مع الحقائق التاريخية والقانونية، ويعزز شرعية المطالب المغربية، مما يجعل من فكرة انفصال الصحراء عن الوطن الأم ضرباً من المستحيلات السياسية.
 
لم تكن الإنجازات في الأقاليم الجنوبية مجرد مشاريع تنموية عابرة، بل كانت تجسيداً عملياً لإرادة ملكية قوية تكرس الانتماء وتُعزز الروابط. لقد نجحت رؤية الملك محمد السادس في تحويل الصحراء المغربية من منطقة ذات بعد سياسي إلى قاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، تخلق الثروة وتوفر العيش الكريم لأبنائها، وتؤكد للعالم أجمع أن مستقبل هذه الأقاليم هو جزء لا يتجزأ من مستقبل المغرب الموحد، وإعلان 31 أكتوبر "عيد الوحدة" من طرف صاحب الجلالة لم يأتي من فراغ.