أنور الشرقاوي:  ديون يصعب سدادها آنيا ولاحقا 

 أنور الشرقاوي:  ديون يصعب سدادها آنيا ولاحقا  الدكتور أنور الشرقاوي 
 كابوس الصفحات المنسية ... حكاية خيالية من القرن الحادي والعشرين 
 
ماذا لو كانت ديون البشرية لا تقاس بما تملكه من دراهمٍ أو بما فقدته من ذهب، بل بما لم يقرأه الانسان من كتب؟
في كلِّ ليلةٍ، يعود الكابوس ذاته.
 
رجلٌ يمشي وسط مكتبةٍ لا نهاية لها، تحيط به وجوهٌ صامتة من الدائنين.
لكنهم لا يطالبونه بمالً، ولا يهددون بمحاكم، بل يطالبونه بنظرة من  عينيه فوق صفحاتهم، و بلمسةٍ من انتباه، و بومضةٍ من روح.
إنهم الكُتّاب الذين لم يقرأهم، والشعراء الذين لم يُصغِ إليهم، والعوالم التي لم يستكشفها.
يدين لهم بكل شيء: بالوقت الضاءع، وبالانتباه المشتت، وبشظايا روحه الغافلة عن امهات الكتب. 
 
يدين لهم بدوار فقرةٍ من بروست،
وبمتاهة فكرةٍ من بورخيس،
وببريق جملةٍ من سيوران،
وبهمس سيمون فايل الداخلي،
وبعُزلة بيسوا المحمومة،
وبصفاء كافكا المتقد كالجمر.
 
ويدين أيضًا بنور طه حسين،
وبحكمة المعرّي الكفيفة،
وبإنسانية نجيب محفوظ المتجذّرة،
وبلانهائية أدونيس الشعرية،
وبنفَس خليل جبران الخالدة،
وبوطن الكلمات لدى محمود درويش.
 
ديونه تُقاس بأوراقٍ لم تُقلب،
وبصفحاتٍ لم تُثنَ زواياها،
وبأغلفةٍ أُغلقت قبل الأوان.
 
تُقدَّر بوخز ملخص في آخر الكتاب قُرئ كما تُقرأ شواهد القبور،
وحنين لحيواتٍ موازية لم يعشها.
 
كل كتابٍ لم يُقرأ هو دائنٌ صامت.
وكل مكتبةٍ هي محكمةُ صمتٍ أبدية.
 
يمشي بينها كمؤمن تأخّر عن صلاته،
يحاول أن يُسدد الشبه المستحيل: الزمن الضائع في اللاقراءة.
 
يعرف، كما عرف مونطين،
أن كتابًا واحدًا يُقرأ بسلام القلب
خيرٌ من مكتبةٍ تُقتنى بلا حبّ.
 
ويعلم، كما علم كافكا،
أن الأوان قد فات، وأن الكتب كثيرة، والعوالم أكثر،

 
وأن ذاته الممزقة لا تكفي للحاق بالركب.
هذا دينٌ بلا دائنٍ، وبلا أجل.
لن يُطفأ برحيله ومحاولة سداده. 
هو ختمُ العقول المستيقظة،
الذين يقيسون جهلهم لا بما يعرفون،
بل بما لن يسعهم الوقت لقراءته أبدًا.
وحين يُغمض عينيه بين الندم والحنين،
يهمس، كمن يتلو دعااءا:
 
 يا كتبَ وكتاب الكون، يا أصواتَ الغائبين والمغيبين ...
سامحوني على ما لم أقرأ،
فإنّ ديوني إليكم هي التي تُبقيني حيًّا.