في الأسابيع الماضية، كان الشباب المغربي قد خرج إلى الشارع من أجل قضايا مجتمعية بسيطة لكنها عميقة في التعليم والصحة وفرص الشغل… وهي ليست مطالب جديدة، لكنها هذه المرّة جاءت بنبرة مختلفة. جاءت بصرخة غضب، وبرسالة هادئة تقول: إن هذا الجيل يرى نفسه جزءًا من مستقبل البلاد، ويريد أن يسمع الآخرون صوته بوضوح.
جيل “زد” اليوم ليس جيلًا منقطعًا عن الواقع كما كان يعتقد البعض، بل جيلٌ تَكَوَّن في فضاء رقمي مفتوح، وتشرَّب حساسية عالية تجاه «الحكرة». يعرف ماذا يريد، ويعرف كيف يطالب به، ويعرف أيضًا أن المؤسسات ليست نصوصًا جامدة، بل بنيات تؤثر في تفاصيل حياته اليومية.
ومع ذلك، يبقى السؤال: هل يكفي الشارع لتغيير الواقع؟
الاحتجاج يوقظ، يضغط، وقد يجعل الإدارة تعيد ترتيب أولوياتها. لكنه، مع ذلك، يظل لحظة فقط. أمّا التغيير الحقيقي فيحتاج إلى مسار أطول؛ يحتاج إلى من يكتب المشروع، ومن يناقشه، ومن يصوّت عليه، ومن ينفّذه، ومن يراقب تطبيقه. يحتاج أيضًا إلى من يوجد داخل المؤسسات، لا فقط أمامها.
والمفارقة اليوم أن الشباب الذين خرجوا إلى الساحات بهذه الكثافة هم أنفسهم الغائبون عن الزمن المؤسساتي. المشاركة الانتخابية ضعيفة، الحضور الحزبي محدود، والعمل المدني والمجتمعي لا يعكس حجم هذا الوعي الجديد. حين يصبح الشارع ممتلئًا… بينما تبقى المؤسسات فارغة من أصحابها الطبيعيين.
هذه المفارقة ليست مغربية فقط، وقد عاشتها مجتمعات كثيرة قبلنا. في جنوب إفريقيا مثلًا، قاد الشباب في الثمانينيات أقوى موجات الاحتجاج ضد نظام الأبارتايد، لكن لحظة التحول الكبرى لم تبدأ إلا حين دخلوا المؤسسات وشاركوا في صياغة الدستور الجديد، وأصبحوا جزءًا من بناء الدولة. الشارع أطلق الشرارة، لكن المؤسسات هي التي حملت المشعل بعيدًا.
وفي كوريا الجنوبية، كانت الحركة الطلابية في الثمانينيات رمزًا لمقاومة الاستبداد. ولكن ما جعل كوريا تتحول لاحقًا إلى إحدى أهم التجارب الاقتصادية في العالم، هو أن أولئك الشباب أنفسهم انتقلوا بعد سنوات إلى الوزارات والبرلمان والهيئات الاقتصادية، وكتبوا سياسات التعليم والصناعة والبحث العلمي. الاحتجاج كان بداية اليقظة، لكن الفعل المؤسساتي هو الذي صنع النهضة.
وفي البرازيل، خرج الشباب في بورتو أليغري احتجاجًا على الفساد وسوء الخدمات، غير أنّ التغيير الحقيقي لم يبدأ إلا حين جلسوا حول الطاولة، وانخرطوا في تجربة الميزانية التشاركية، وصاروا يقررون مع البلدية أين تُصرف الأموال، وكيف تُراقَب المشاريع. لم تتغير المدينة بالصوت العالي، بل باليد التي تشارك في اتخاذ القرار. وفي كل مرة كنت أزور فيها هذه المدينة الرائعة مع المرحوم عبدالقادر أزريع، كنا معًا نتيه في جمالها وحيويتها وتاريخها، وكيف كانت وكيف أصبحت.
ثم جاءت التجربة الأكثر إثارة هذه الأيام: صعود زهران إلى عمادة مدينة نيويورك. شابٌ قادم من الهامش، يحمل أفكارًا اشتراكية في قلب مدينة المال والأعمال. واجه لوبيات وضغوطًا وميزانيات ضخمة ضُخَّت لإسقاطه. لكن الشباب الأميركي لم يكتفِ بمتابعته على الشبكات الاجتماعية. لم يتركوه وحيدًا في الشارع. ذهبوا إلى الاقتراع، نظموا حملات ميدانية، واشتغلوا داخل المؤسسات. وحين وصل صوتهم إلى الصندوق، تغيّر وجه المدينة.
فالقرار الأخير لم يصنعه الاحتجاج… بل المشاركة.
هذه التجارب كلها تقول شيئًا واحدًا: إن الوعي بالشأن العام حين يظل خارج المؤسسات يفقد نصف قوته. أما حين يدخل إليها، فيصبح قوة فاعلة، ومشروعًا، وورقة يمكن أن تغيّر السياسات والبرامج.
وقد كتب جون ديوي يومًا: «الديمقراطية ليست لحظة غضب، بل عادة يومية تُمارَس».
اليوم، وقد وصل الشباب المغربي إلى مرحلة جديدة من الوعي والقدرة على التعبئة، فإن الخطوة الطبيعية التالية هي أن يسمو هذا الوعي، وأن يجد شكله المؤسساتي. فالاحتجاج بداية الطريق، لكنه ليس نهايته.
ربما آن الأوان ليكتشف هذا الجيل أن الطريق نحو التغيير يمر عبر القدرة على الجلوس بثقة داخل الأماكن التي يُصنع فيها القرار. وحينها… قد يتغير كل شيء.