هل نحن أمام تكامل حقيقي بين البرامج التنموية الترابية كما صاغتها القوانين التنظيمية، أم أمام تنافس خفي يعكس استمرار منطق الوصاية المركزية في ثوب جديد؟ ولماذا تمنح الولاية والعمالة هذا الدور الحاسم في قيادة ما يسمى بالبرامج المندمجة، بدل أن تضخ الدولة ميزانياتها في تمويل برامج عمل الجماعات وبرامج تنمية الأقاليم وبرامج تنمية الجهة المنصوص عليها قانونا؟ أليس في هذا التوجه نوع من التقزيم المؤسسي لدور الجماعات الترابية والجهوية التي جعل منها الدستور رافعة للتنمية المحلية والجهوية، ولكن من دون موارد كافية أو استقلال مالي فعلي؟
من زاوية التحليل القانوني والإداري، تبرز هذه الأسئلة كمفاتيح نقدية لتفكيك ما يمكن تسميته بـ"المفارقة الترابية" في التجربة المغربية: فبينما تنص القوانين التنظيمية للجماعات الترابية (113.14 و112.14 و111.14) على أن التنمية شأن مشترك بين مختلف المستويات الترابية، وأن كل جماعة مطالبة بإعداد برنامج عمل تشاركي ملزم قانونا، ونفس الشيء بالنسبة للإقليم والجهة من خلال إعداد برنامج تنمية الإقليم وبرنامج تنمية الجهة، نجد في الواقع أن الدولة تواصل احتكار المبادرة التنموية من خلال إطلاق برامج "مندمجة" تستمد مشروعيتها من المقاربة التعاقدية ولكنها في العمق تُدار من فوق.
فـ برنامج التنمية المندمج، الذي يفترض أن يكون آلية لتجسيد الالتقائية بين الدولة والجماعات، أصبح في الممارسة تجسيدا جديدا لمنطق المركزية المقنّعة، حيث يتصدر الوالي أو العامل المشهد باعتباره المنسق والمشرف والمقرر، بينما يُترك للمجالس الترابية هامش محدود من المشاورة أو التنفيذ. ويطرح هنا السؤال الجوهري: لماذا هذا التركيز على مؤسسة الولاة والعمال في قيادة التنمية المندمجة؟
الجواب، وفق منهج التحليل الإداري، يكمن في أن الدولة لا تزال تنظر إلى المجال الترابي كفضاء لتنفيذ السياسات الوطنية أكثر من كونه فضاء لصناعة القرار المحلي. فبمنطقها الأمني والسياسي، ترى في العامل والوالي الضامن لاستقرار الدولة ووحدة القرار، ولذلك تُسند إليهما صلاحيات التنسيق والمراقبة والمصادقة باسم الشرعية الإدارية، رغم أن الدستور جعل من رؤساء المجالس الترابية الفاعلين الأساسيين في تدبير شؤونهم. وهنا يتجلى التناقض بين الخطاب الدستوري والواقع التدبيري: الأول يمنح الاستقلالية، والثاني يفرغها من مضمونها عبر إعادة إنتاج سلطة الدولة المركزية في مستوى التراب.
أما من حيث التمويل، فإن السؤال لا يقل إلحاحا: لماذا لا تضخ الدولة ميزانياتها في برامج عمل الجماعات وبرامج تنمية الأقاليم وبرامج تنمية الجهة؟
الجواب بسيط في ظاهره ومعقد في جوهره. الدولة تُفضّل تمويل البرامج المندمجة لأنها تتحكم في هندستها وفي تدبير مواردها، بينما تمويل برامج الجماعات أو الأقاليم أو الجهات يعني نقل سلطة القرار المالي إلى مؤسسات منتخبة ذات شرعية محلية وجهوية. وهذا التحول، في منطق الدولة المركزية، ما يزال محفوفا بالمخاطر، لأنه قد يحد من هيمنتها على توجيه التنمية وفق أولوياتها السياسية والاقتصادية. لذلك، تغدق الميزانيات الضخمة على المشاريع المندمجة التي تنفذ بإشراف العمال والولاة، في حين تبقى الجماعات والجهات تواجه إكراهات مالية خانقة، تُحرم معها من القيام بدورها التنموي كما أراد الدستور.
إن هذا الاختلال يعيد إنتاج معادلة قديمة في ثوب جديد: من يمتلك المال يمتلك القرار. فبرامج التنمية المندمجة، وإن كانت تحمل في ظاهرها خطاب الالتقائية والتعاون، فإنها في جوهرها آلية لضبط المجال الترابي أكثر منها آلية لتقويته. فهي تُمكّن السلطة المركزية من مراقبة تنفيذ المشاريع وتتبعها وتوجيهها، بينما تُبقي الجماعات والأقاليم والجهات في موقع التابع الذي يُنفذ ويُصادق دون أن يقرر أو يمول.
من زاوية منهج الحمامة، الذي يجمع بين الواقعية القانونية والرؤية القيمية، يمكن القول إن التنمية الترابية في المغرب لا يمكن أن "تطير" بجناح واحد. فإذا كانت الدولة تمثل جناح الاستقرار والتوجيه، فإن الجماعات والجهات تمثل جناح المبادرة والتجذر في الحاجات اليومية للمواطنين. غير أن السياسة المالية الحالية تُضعف هذا الجناح الثاني، فتصبح التنمية الترابية طيورا بجناح مكسور، تحوم حول الشعارات دون أن تقلع نحو النتائج.
إن ما يحدث اليوم هو تنافس غير معلن بين منطقين:
منطق الدولة التي تريد الحفاظ على مركزية القرار تحت عنوان "الاندماج"، ومنطق الجماعات والجهات التي تبحث عن استقلالية القرار في إطار "التدبير الحر". لكن غياب التمويل الحقيقي للجماعات والأقاليم والجهات يجعل كفة الدولة هي الراجحة دائما، فيتحول الاندماج إلى تبعية، والتنسيق إلى وصاية، والتعاقد إلى أداة لتجريد المجالس الترابية من سلطتها المالية والسياسية.
وبناء عليه، يمكن القول إن البرامج المندمجة لا تُكمل بالضرورة برامج الجماعات أو الأقاليم أو الجهات، بل تُنافسها في الدور والمضمون. فهي تستند قانونيا إلى مبدأ التعاقد والتعاون، لكنها تدار سياسيًا بمنطق الوصاية. أما برامج عمل الجماعات وبرامج تنمية الأقاليم وبرامج تنمية الجهة، رغم إلزاميتها القانونية، فإنها تظل وثائق "طموح بلا موارد"، لأن الدولة لم توفر لها الإمكانات المالية الكافية لتحقيق أهدافها.
إن تقزيم دور الجماعات الترابية والجهوية لم يعد ناتجًا عن ضعف الكفاءات المحلية فقط، بل عن منظومة تمويل مركزية مغلقة لا تسمح بتوزيع عادل للموارد. فكيف يمكن لجماعة قروية أو حضرية أن تنجز مشاريع بنيوية وهي تعيش بعجز مالي مزمن؟ وكيف يمكن لإقليم أن يحقق العدالة المجالية وهو يفتقر إلى ميزانية مستقلة؟ وكيف يمكن لجهة أن تضطلع بدورها في القيادة الاقتصادية والتنمية المندمجة وهي مقيدة بوصاية الدولة المالية؟
إن الخروج من هذا المأزق يقتضي إعادة النظر في منطق توزيع السلطة المالية، لأن التنمية الحقيقية تبدأ من القاعدة لا من القمة. فبدل أن تكون البرامج المندمجة بديلا عن برامج الجماعات أو الأقاليم أو الجهات، ينبغي أن تكون رافعة داعمة ومتناغمة معها. وعندما تمنح هذه المؤسسات الترابية القدرة المالية الحقيقية على المبادرة، ويُعاد تحديد دور الولاة والعمال كمؤطرين لا كقادة للتنمية، آنذاك فقط يمكن للجهوية المتقدمة أن تتحول من شعار إلى ممارسة.
يبقى في نهاية الأمر السؤال مفتوحا:
هل نحن أمام تنمية "مندمجة" حقا، أم أمام إعادة إنتاج للمركزية بآليات جديدة؟
ما لم يجب الواقع على هذا السؤال بالفعل، سيظل الاندماج مجرد مصطلح إداري جميل يخفي تحته استمرار تبعية التنمية للمركز، بدل أن تكون التنمية انبثاقا حقيقيا من المجال في تفاعل جماعي بين الدولة والجماعات والأقاليم والجهات على حد سواء.