منير لكماني: الوجه الآخر للوباء.. حين يمرض العالم بالتمييز قبل أن يمرض بالعدوى

منير لكماني: الوجه الآخر للوباء.. حين يمرض العالم بالتمييز قبل أن يمرض بالعدوى منير لكماني
مرآة الخطر
ليست الأوبئة مجرد موجاتٍ من العدوى تجتاح الجسد، بل هي مرايا كاشفة لما يختبئ في أعماق المجتمعات من تصوراتٍ وطبقاتٍ وتفاوتات. حين ينتشر المرض، يخرج الخوف من عزلته القديمة ليتخذ وجوهاً سياسية واقتصادية وعنصرية. تتغير نبرة الخطاب، ويُعاد رسم خريطة العالم على أساس مناعةٍ متخيلة وحدودٍ مشبعة بالريبة. فالوباء لا يصيب الجسد وحده، بل يعرّي العقول التي تنظر إلى الآخر وكأنه أصل الداء.
 
جغرافيا العدوى
منذ قرنين تقريباً، تشكّل في العالم تصورٌ يُقسّم البشر إلى مناطق صحية وأخرى موبوءة. خُيّل للبلدان الغنية أنّها تجاوزت زمن الطواعين، وأن الأمراض تنتمي إلى العوالم البعيدة. هكذا وُلدت خريطة غير مرئية، يُصنَّف فيها الناس بحسب درجة اقترابهم من “النقاء” أو من “الخطر”. لم يكن الحجر الصحي أداة طبية فقط، بل وسيلة لتبرير التفوق وتكريس الفوارق. فكلّما زاد غنى المكان، بدا أحقّ بالحماية، وكلّما اشتد فقره، صار موضوعاً للمراقبة والاتهام.
 
الهيمنة بلغة الصحة
حين تتدخل القوى الكبرى للحد من تفشي الأمراض، نادراً ما تفعل ذلك بدافع الرحمة وحدها. فالموانئ والمعابر التجارية كانت دائماً خط الدفاع الأول، لا لأن الأرواح غالية، بل لأن البضائع أغلى. قُدمت الوقاية على أنها عمل إنساني، لكنها غالباً كانت درعاً لحماية الأسواق. باسم “التطهير” سُنّت القوانين التي تتحكم في تنقل الشعوب، وباسم “العلم” رُسّخت أنظمة التفتيش والمراقبة على الأجساد، خصوصاً أجساد الفقراء.
 
من الاستعمار إلى العولمة
تغيرت الأسماء، لكن المنطق لم يتغير. انتقلت إدارة الصحة من المكاتب الإمبراطورية إلى مؤسساتٍ دولية ترفع شعار التعاون العالمي. غير أن نظرة الريبة القديمة ما زالت حاضرة في سياسات الطوارئ، وفي طريقة تصنيف الأخطار وتوزيع اللقاحات. لم تعد الدول تُدار بالسيف، بل بالمعطيات والإحصاءات، وأصبح الحديث عن “إدارة المخاطر” غطاءً جديداً للسيطرة. فالدول الثرية تتحكم في القرار والتمويل، بينما تُمنح الدول الضعيفة نصيبها من المساعدات المشروطة، وكأن العدالة الصحية امتياز لا حقّ.
 
السوق والوباء
في السنوات الأخيرة، تحوّل المرض إلى رقمٍ في بورصة. ظهرت آليات تمويل تُتيح للمستثمرين الربح من الكارثة، وكأن معاناة الناس فرصة تجارية. صار الموت قابلاً للتسعير، تُباع احتمالاته وتشترى. كل ذلك تحت شعار “الاستعداد للأزمات”، بينما يُعاد إنتاج الفكرة ذاتها: أن الخطر يأتي من الجنوب، وأن الشمال هو الضحية الحذِرة. هذه النظرة لا تقتل بالجائحة وحدها، بل تُميت التضامن نفسه، وتحول الصحة إلى صفقة تُدار على حساب الكرامة الإنسانية.
 
زمن الانكشاف
لقد جاءت الجائحة الأخيرة لتقلب الموازين. سقطت فكرة “التحصين الحضاري”، وظهر الضعف في قلب العواصم التي طالما ادّعت امتلاك مفاتيح الوقاية والعلم. ومع ذلك، بقي الخطاب نفسه: اتهامٌ للآخر، وتبريرٌ للعجز، ومحاولةٌ دائمة لاستعادة شعورٍ زائف بالتفوق. والحق أن المرض لا يفرّق بين حدودٍ وجوازات، لكنه يفضح الأنظمة التي تعامل الصحة كامتياز طبقي أو سياسي.
 
سؤال العدل
إن العدوى الحقيقية ليست في الفيروس، بل في الفكر الذي يصنع من الإنسان ميزاناً للقيمة بحسب أصله ومكانه. الصحة، في جوهرها، عقد أخلاقي قبل أن تكون نظاماً تقنياً. فهل يمكن للعالم أن يشفى من وهم التفوق، وأن يبني نظاماً يُساوي بين الأرواح قبل الأرقام؟ وهل نملك شجاعة الاعتراف بأن الوقاية الحقيقية تبدأ من علاج الظلم لا من إغلاق الحدود؟
الوباء سيمضي كما مضت أوبئة كثيرة، لكن ما سيبقى هو السؤال: أيّ إنسانٍ نريد أن نكون عندما يمرض العالم من جديد؟