ظل سيون أسيدون ذاكرةٌ تمشي على قدمين، ذاكرة لزمن طويل من الهزّات والخيبات والانكسارات، من الحلم الجماعي بالتحرّر إلى صمت العالم أمام المظلومين. حين كانت البلاد تتعلم بصعوبةٍ معنى جرح الدولة ومعنى انكسار الحلم، اختار سيون أن يكون في الضفة التي تُؤلم أكثر.
لم يكن يسارياً على الطريقة الكلاسيكية، ولا ثورياً من ورق الشعارات، بقدر ما كان رجلا خجولا في مدرسة الضمير، حيث النضال تمرينٌ أخلاقي على قول "لا" حين يسكت الجميع.
لقد وُلد أسيدون وفي عروقه ماء المتوسط وملح الأطلسي، اختار منذ بداياته أن ينحاز إلى العراء، إلى الشقاء النبيل للنضال حيث ظل ينحت انتماءه بصمتٍ وصبر وأسئلةٍ كبرى: ما الذي يجعل إنسانًا حرًا؟ وما الذي يجعل وطنًا جديرًا بأبنائه؟
ظل صوته يتجاوز الانتماءات الضيقة ليعانق القضايا الإنسانية الكبرى، من فلسطين إلى المغرب العميق. يهوديٌّ مغربيٌّ تشكّل في قلب أرضٍ تعرف كيف تحتضن الاختلاف، لكنه حمل على كتفيه ثقل العالم بأسره: جراح الهويات، خرائط الذاكرة وأثقال العدالة المؤجلة. إنه من أولئك القلائل الذين جعلوا من التناقض جمالاً: يهوديٌّ يدافع عن فلسطين، مغربيٌّ ينتقد السلطة دون أن يكره الوطن، مناضلٌ يختار الصمت حين يُصبح الكلام رخيصا. وظل يمشي على الحافة دائماً - حافة الانتماء وحافة الرفض- حافة الهوية التي لا تُختزل في دينٍ ولا دم، وحافة النضال الذي لا يعرف حدودًا بين فلسطين والمغرب، وحافة إنسانيته المتقدة، حيث يصبح الدفاع عن الآخر دفاعًا عن الذات. لم تكن الحافة بالنسبة لأسيدون هاوية ولا خطرا بقدر ما كانت موقعا أوضح للرؤية
في الزنازن التي أرادت أن تطفئ روحه، اكتشف أن الجدران لا تسجن إلا الأجساد. هناك، حيث الزمن يتبخّر، صنع زمنه الخاص ونسج علاقة جديدة مع الصبر والكرامة. خرج من المعتقل ليذكّرنا أن السلطة زائلة، وأن العدالة - وإن تعثّرت - لا تموت. لم يخرج مهزوما ولا بطلًا بل خرج كمن اكتشف هشاشة الطغيان وقوة الذاكرة، كمن عاد من حافة العدم حاملًا يقينًا واحدًا: أن الحرية تُنتزع وتمارس يوميا في صراع الحياة. من قلب سنوات الاعتقال السياسي إلى ساحات الدفاع عن حقوق الإنسان، ومن حملات المقاطعة ضد الاستعمار الجديد إلى معارك الذاكرة والهوية، ظل أسيدون حاضرا كصوتٍ مُلهم للأجيال الجديدة. لا يهادن في الحق، ولا يتردد في تسمية الأشياء بأسمائها، كمن يوقظ الضمير الجماعي من سباته.
رغم غيابه الموجع، يبدو حضوره أكبر من جسده، وكلماته أوسع من زمنه. هو آخر أبناء الأسطورة الذين يذكّروننا أن النضال قدرٌ شخصي، وأن أسمى أشكال الانتماء هي تلك التي تجعل الإنسان مرآةً للإنسانية كلّها. أن تكون مناضلاً، يعني أن تحبّ هذا العالم رغم قسوته،
وأن تؤمن، رغم الخيبات، بأن العدالة حلمٌ عنيد لا يموت.