يحتفل المغرب بمرور نصف قرن على انطلاق المسيرة الخضراء، هذا الاحتفاء الذي تزامن هذه السنة مع قرار مجلس الأمن اعتبار المبادرة المغربية الأساس لأي حل في الأقاليم الجنوبية. وهي مسيرة تتوج نصف قرن من التضحيات، كما ورد في الخطاب الملكي بهذه المناسبة، حيث أشاد جلالة الملك محمد السادس بتضحيات المغاربة من أجل تحقيق وحدة بلادهم. وقد تحقق هذا الإنجاز كثمرة لسياسة خارجية متماسكة واستباقية، قادها جلالة الملك محمد السادس بحكمة وبعد نظر.
مرّ نصف قرن حافل ببناء الوحدة واستكمال مسيرة التنمية والبناء، نصف قرن من التضحيات ومواجهة المؤامرات، التي بدأت في فترة جيوسياسية تميزت بالحرب الباردة، واستفادة الخصوم من دعم المعسكر الشيوعي ومن أموال نظام القذافي.
ورغم ذلك ظل المغرب متمسكًا بحقه، ومتشبثًا بالشرعية الدولية ومواثيق الأمم المتحدة، باعتباره أول من طالب بتصفية الاستعمار في الأمم المتحدة سنة 1963، كما بادر إلى طرح الاستفتاء التأكيدي في نيروبي من طرف العاهل الراحل الحسن الثاني سنة 1981 . وفي عهد جلالة الملك محمد السادس، قدم المغرب سنة 2007 مبادرة الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية، وهو المسار الذي قادته الدبلوماسية الملكية إلى أن توج يوم 31 أكتوبر 2025 باعتراف مجلس الأمن بالمقترح المغربي كأساس للحل، بعد مسار طويل من العمل الدبلوماسي المتزن.
هذه السياسة الواقعية، التي قادها جلالة الملك منذ عقدين من الزمن، تميزت بالتماسك والاستباقية على الصعيد الدولي، وبمشروع تنموي متكامل في الأقاليم الجنوبية للمملكة. فقد تم إطلاق مشاريع ضخمة ومهيكلة في مجالات الطاقة والنقل البحري، من خلال تحويل ميناء الداخلة الأطلسي إلى بوابة لبلدان الساحل الإفريقي، التي تجاوبت إيجابيًا مع هذه المبادرة المغربية واعتبرتها حلًا استراتيجيًا لفك العزلة عن بلدان الساحل، التي تعاني مشاكل تنموية وأمنية بسبب غياب الأفق التنموي. وهو المشروع الذي يعمل عليه المغرب من أجل رفع العزلة عن هذه المنطقة الإفريقية الواعدة.
إن تبني القرار الأخير لمجلس الأمن رقم (2797) بأغلبية ومن طرف قوى فاعلة في العالم لصالح السيادة المغربية على الصحراء، يمثل انتصارًا دبلوماسيًا لسياسة التوافق والعمل المشترك وطويل الأمد التي انتهجتها الدبلوماسية المغربية. ويُعد هذا النجاح ثمرة لاستمرار مسيرة الملك والشعب، حيث كان العمل من أجل تثبيت الوحدة الترابية تقوده الدبلوماسية الرسمية، إلى جانب الأحزاب السياسية والمجتمع المدني داخل الوطن وبين مغاربة العالم. وكانت كل هذه القوى تعمل بتناغم وتكامل تحت القيادة الملكية الرشيدة، في إطار احترام القانون الدولي، والمصداقية، والواقعية.
هذا النجاح المغربي هو أيضًا ثمرة استراتيجية واضحة ومندمجة، تجمع بين الاستقرار والتنمية الداخلية، والانفتاح على المحيط الإفريقي، وبناء تحالفات دولية مستدامة مع دول كبرى ذات مصالح متناقضة، لكنها تتجاوز خلافاتها في تعاملها مع قضايا المغرب، لما تجده من جدية ومصداقية في الموقف المغربي.
القرار الأممي الأخير هو كذلك نتيجة لدبلوماسية ملكية نشطة وبعيدة النظر. فبعد الاعتراف الرسمي من قبل الولايات المتحدة في دجنبر 2020، تبعته عدة عواصم أوروبية، منها برلين ومدريد، وبلدان أوروبية أخرى، كان أبرزها اعتراف باريس بوجاهة الطرح المغربي سنة 2024. ولم تعد شرعية الموقف المغربي محل نقاش، خاصة أن فرنسا كانت أول من دعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي سنة 2007، بحكم معرفتها العميقة بخبايا المنطقة وتاريخها، من خلال الحروب التي خاضتها ضد المغرب في إيسلي (1844) والدار البيضاء (1907) خلال القرن التاسع عشر، وصولًا إلى توقيع عقد الحماية سنة 1912. وهو مسار يعكس التضحيات التي قدمها المغرب وفقدانه لعدد من أقاليمه في الصحراء الغربية والشرقية، نتيجة التآمر الاستعماري الذي خلق كيانات مصطنعة بالمنطقة، بعيدة عن التاريخ والواقع البشري والثقافي المحيط بالمملكة عقابا له لاختياره دعم المقاومة بهذه البلدان.
ومع ذلك، اختار المغرب دائمًا سياسة اليد الممدودة، وتجاوز مخلفات الاستعمار، من أجل بناء مغرب كبير ينعم فيه جميع سكان المنطقة بالاستقرار والتنمية، من موريتانيا إلى ليبيا. وهو فحوى الرسالة التي بعث بها جلالة الملك بعد موقف مجلس الأمن، حيث دعا إلى فتح قلب المغرب لاحتضان أبنائه المغرر بهم أو المحتجزين في تندوف، والعودة إلى الوطن الأم، وتجاوز أكثر من نصف قرن من التآمر على المغرب، ومدّ اليد إلى الجيران من أجل ركوب قطار التنمية المشتركة، وبناء مستقبل يتسع لجميع أبناء المنطقة من نواكشوط إلى طرابلس مرورًا بالرباط والجزائر وتونس. فهذه المنطقة يمكن أن تشكل محورًا إفريقيًا قويًا بمواردها وبأبنائها، في عالم يشهد تحديات وتحولات جيوستراتيجية غير مسبوقة، وحروبًا تدور رحاها في أوروبا وإفريقيا وفلسطين.
اليوم، يتجه المغرب بثقة نحو تحقيق مختلف رهاناته، من خلال سياسة "رابح – رابح"، ورؤية ملكية حكيمة حولت الأقاليم الجنوبية من نقطة خلاف إلى نقطة وصل بين المغرب وغرب إفريقيا وأوروبا. ورغم هذا الانتصار الديبلوماسي الكبير يفتح المغرب دراعيه لتسامح ولالتحاق الجميع بمسيرة التنمية التي أطلقها بالمنطقة.