شكل الخطاب الملكي الأخير لـ (31 أكتوبر 2025) نقطة تحول نوعية في مسار النزاع الإقليمي حول الصحراء، حيث أعلن بوضوح انتصار المغرب الدبلوماسي والسياسي في الساحة الدولية، كما أعاد ضبط إيقاع التحرك الوطني على قاعدة جديدة: تجاوز مرحلة «إدارة النزاع» نحو مرحلة «تثبيت الحل»، وتعبئة الحلفاء الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الإفريقية الصديقة، من أجل إرغام الجزائر على المغادرة السريعة «متلازمة الأنف» والقبول بالقرار الأممي، مع التحرك من أجل عزل البوليساريو داخل المؤسسات الإفريقية، عبر منعها من المشاركة في القمم المشتركة واللقاءات مع الشركاء الدوليين، وفضح عدم شرعيتها القانونية أمام اللجان المختصة.
من هنا يمكن القول إن المرحلة «ما بعد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2797، الذي انتصر للشرعية المغربية وللحكم الذاتي» ستكون حاسمة في تثبيت مكاسب المغرب وترسيخ موقعه بوصفه فاعلا محوريا في المنطقة، بدءا من فرض الإحصاء الديمغرافي في مخيمات تندوف، والتحضير الدقيق للجمعية العامة من أجل سحب الإقليم من لائحة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، فضلا عن العمل داخل الاتحاد الإفريقي على عزل الكيان الانفصالي تدريجيًا إلى أن يختفي تماما من الواجهة.
والحق إنها ثلاث معارك متكاملة، تمثل أضلاع المثلث الجديد للدبلوماسية المغربية التي ينبغي عليه التحرك من أجل إغلاق الباب أمام أي التباس قد تنسجه الجزائر من أجل «تثبيت الجمود» والدوران في جولات من التفاوض المغلق والرهان الدائم على الإخفاق. ذلك أن المغرب أصبح الآن في موقع من يحدد الإيقاع، ويبني التوازنات الجديدة، ويقود الحلول نحو الهدف النهائي: طي صفحة النزاع المفتعل نهائيا، وتثبيت مغربية الصحراء في الوعي الدولي كما هي ثابتة في الوجدان الوطني، والحرص على إنجاح التنزيل الفعلي لمشروع الحكم الذاتي الذي يقوم على مبدأ نقل السلطة إلى سكان الأقاليم الجنوبية في تدبير شؤونهم المحلية، ضمن احترام السيادة الوطنية ووحدة التراب المغربي، وذلك في إطار حكامة جهوية متقدمة تزاوج بين الخصوصية المحلية والانتماء الوطني.
الهيكل التنظيمي لمنطقة الحكم الذاتي
يشمل الحكم الذاتي بشكل أساسي: جهة العيون- الساقية الحمراء (تضم أقاليم العيون والسمارة وطرفاية وبوجدور)، وجهة الداخلة- وادي الذهب (تضم إقليمي الداخلة وأوسرد)، أي ما يعادل نحو 260 ألف كيلومتر مربع. أما من ناحية السكان، فتشير آخر الإحصاءات الرسمية والتقديرات الميدانية إلى أن عدد سكان الأقاليم المشمولة بالحكم الذاتي يبلغ حوالي 660 ألف نسمة، حيث تحتل جهة العيون – الساقية الحمراء نحو 405 آلاف نسمة موزعين بين العيون 260 ألفاً، السمارة 70 ألفاً، بوجدور 60 ألفاً، وطرفاية 15 ألفاً، فيما يصل عدد سكان جهة الداخلة – وادي الذهب إلى نحو 255 ألف نسمة موزعين بين الداخلة 210 آلاف وأوسرد 45 ألفاً. وباحتساب سكان مخيمات تندوف الذين من المتوقع أن يشملهم برنامج العودة الطوعية والمشاركة في الحكم الذاتي، والذين تُقدر أعدادهم بشكل واقعي بين 100 و120 ألف نسمة، يصل العدد الإجمالي للسكان إلى نحو 760 ألف نسمة، أي ما يقارب ثلاثة أرباع المليون نسمة.
ويسمح هذا التقدير الديموغرافي بإنشاء نظام انتخابي محلي متوازن يمثّل مختلف المكونات القبلية والمجالية، ويسهل إدماج العائدين من مخيمات تندوف، كما يشكّل النواة الأولى لنموذج تنموي ذاتي يرتكز على الطاقة والصيد البحري والسياحة والموانئ الجديدة، بما يعزز الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمنطقة.
وتقترح خطاطة مشروع الحكم الذاتي مدينة العيون عاصمة إدارية ومقرا للبرلمان المحلي، في حين يمكن أن يكون مقر الحكومة المحلية في مدينة الداخلة لأسباب رمزية وتنموية، فيما تبقى جميع الرموز السيادية للدولة موحدة ومركزية، إذ سيظل علم المملكة المغربية وشعارها الوطني هما الرمزان الرسميان للجهة، مع إمكانية اعتماد علم محلي رمزي للاستعمال الداخلي فقط، دون أن يحل محل العلم الوطني، فالمؤسسات والمباني الرسمية في الأقاليم الجنوبية ستظل مرفوعة عليها الراية المغربية. وبالمثل، ستبقى العملة الوطنية «الدرهم» هي العملة القانونية الوحيدة في المنطقة، مع الاحتفاظ بالسياسة النقدية من اختصاص بنك المغرب، فيما يمكن للحكومة المحلية ممارسة بعض الصلاحيات المالية والضريبية على المستوى الجهوي، مثل فرض ضرائب محلية أو تقديم تحفيزات للاستثمار. أما بطاقة التعريف الوطنية وجواز السفر، فسيظلان موحدين ومغربيين بالكامل، يصدران عن الإدارة المركزية، وسيحتفظ سكان الحكم الذاتي بالمواطنة المغربية الكاملة دون أي تمييز قانوني، إذ لا يُنشئ الحكم الذاتي جنسية محلية بل يمنح هوية جهوية إدارية، ما يعني أن المواطن في العيون أو الداخلة يحمل نفس بطاقة التعريف والجواز الذي يحمله أي مواطن مغربي في باقي المدن والجهات.
وبخصوص السيادة والدفاع والعلاقات الخارجية، فإن القوات المسلحة الملكية ستبقى الذرع الحامي والمكلفة بحماية الحدود والمجال الترابي، وستظل وزارة الخارجية المغربية الجهة الوحيدة المخوّلة تمثيل الصحراء في المحافل الدولية، بينما يمكن لحكومة الحكم الذاتي إنشاء ممثليات اقتصادية وثقافية بالخارج للترويج للاستثمار والسياحة، بترخيص من الدولة وتحت إشرافها. وفي الوقت نفسه، تملك منطقة الحكم الذاتي صلاحيات واسعة في تدبير مواردها المحلية، بما يشمل الثروات والضرائب والميزانيات الجهوية، ووضع تشريعات جهوية في مجالات التعليم والثقافة والتعمير والبيئة والاقتصاد المحلي، بالإضافة إلى إنشاء شرطة جهوية مدنية تتبع وزارة الداخلية في الهيكلة العامة، وتطوير شراكات ثقافية واقتصادية خارجية بإشراف الحكومة المركزية. كما تُمارس الحكومة المحلية صلاحياتها برئاسة رئيس منتخب من طرف البرلمان الجهوي، في حين يعيَّن ممثل للدولة (مندوب المملكة/ الوالي)، لضمان احترام الدستور ووحدة الدولة وتنسيق العلاقات بين المؤسسات الجهوية والمصالح الوطنية.
ولتعزيز هذا التنسيق، يقترح المغرب إحداث مجلس مشترك يضم أعضاء من الحكومة المركزية ومن حكومة الحكم الذاتي، يعنى بتتبع المشاريع الكبرى والقضايا المشتركة، وتُرفع تقاريره بانتظام إلى الملك و البرلمان المغربي.
معنى ذلك أن العلاقة بين الحكومة المحلية في منطقة الحكم الذاتي والدولة المركزية تقوم على مبدأ مزدوج يجمع بين الوحدة السيادية والاستقلال في التدبير. فالمغرب يظل دولة واحدة ذات سيادة لا تتجزأ، وتبقى جميع مؤسسات الحكم الذاتي خاضعة للدستور المغربي ورموزه الوطنية، في حين يُمنح سكان الأقاليم الجنوبية الحق في تسيير شؤونهم بأنفسهم ضمن مؤسسات منتخبة ديمقراطيا.
عراقيل تنفيذ المشروع
ومهما يكن، وكما ألمحنا إلى ذلك سابقا، فالمقترح المغربي، رغم قوته الواقعية واعتراف الأمم المتحدة بجديته ومصداقيته وتصويت مجلس الأمن على القرار، بالإمكان أن يصطدم بمجموعة من التحديات التي يمكنها أن تبطئ من وتيرة الانتقال إلى التنفيذ العاجل لخطوات المقترح:
أولا: الموقف الجزائري الرافض للانخراط في منطق الحل السياسي، والمتشبث بخيار الاستفتاء الذي تجاوزه مجلس الأمن، والإصرار على خلق بيئة من التوتر الدائم الذي يقوض إمكانية بناء الثقة بين الأطراف.
ثانيا: الرفض المعلن من جبهة البوليساريو لقرار مجلس الأمن الأخير الداعي إلى استئناف المفاوضات وفق منطق «الواقعية والتوافق». غير أن هذا الرفض قد يؤدي إلى عزلتها الدولية وتفككها الداخلي، كما قد يؤدي إلى تهديد استقرار المنطقة بفسح المجال أمام الجماعات الإرهابية والإجرامية.
ثالثا: بعض الدول، رغم دعمها المبدئي للمبادرة المغربية، تفضل الإبقاء على نوع من الغموض الدبلوماسي حفاظا على توازناتها في شمال إفريقيا.
رابعا: أثناء التنزيل، يمكن أن تظهر بعض العراقيل الدستورية والمؤسساتية، من قبيل الحاجة إلى إعداد بنية دستورية وقانونية دقيقة تنظم العلاقة بين الحكومة المحلية والدولة المركزية، وتوزيع الصلاحيات المالية والإدارية، وتحديد طرق تمثيل الجهة في البرلمان الوطني.
خامسا: تنزيل المقترح يتطلب تكوين نخب محلية مؤهلة قادرة على إدارة الشأن العام بكفاءة، دون الانزلاق نحو إعادة إنتاج النخب نفسها المستفيدة من النزاع وشبكات الريع.
سادسا: لابد من إنشاء نموذج تنموي متين خاص بمنطقة الحكم الذاتي بالصحراء، بقوم على التوزيع العادل للثروة وفرص الشغل، ويحول الصحراء إلى قطب استثماري حقيقي في مجالات الطاقة المتجددة والصيد البحري واللوجستيك والسياحة.
سابعا :العمل على بناء توازن محلي مرحلي للقطع مع التوترات القبلية، وضمان المشاركة السياسية المتساوية لكل المكونات.
ثامنا: نجاح المشروع مرهون بقدرة المغرب على كسب معركة الخطاب والرأي العام داخل البلاد وخارجها، وإقناع العالم بأن الحكم الذاتي تعبير عن نضج سياسي وخيار نهائي لبناء سلام دائم في الصحراء.
البدائل المطروحة في حالة رفض البوليساريو
عبرت الجزائر عن الرفض القاطع لقرار مجلس الأمن، وتعنتها في المشاركة في مفاوضات الحل السياسي الواقعي، مما يفرض إضفاء الطابع الإلزامي التدريجي عليها في المداولات والقرارات الأممية، وذلك عن طريق جملة من الإجراءات، يتمثل أولها في الدفع نحو تصنيف البوليساريو في خانة «الجماعات الإرهابية» (خاصة بعد تزايد التقارير التي تربط بين عناصرها وبعض شبكات التهريب والتنظيمات المسلحة في منطقة الساحل)، أو على الأقل في خانة الكيانات غير الشرعية لرفضها الانخراط في مسلسل تفاوضي أممي، وهو ما سيقود حتما إلى عزلة دبلوماسية خانقة، خصوصًا في ظل التحولات الجارية داخل الاتحاد الإفريقي وتزايد عدد الدول التي سحبت اعترافها بـ «الجمهورية الوهمية». أما ثاني الإجراءات، فيتمثل في أن يقوم المغرب بفرض نموذج «الحكم الذاتي بحكم الأمر الواقع»، أي المضي في تنزيل المشروع داخل الأقاليم الجنوبية من دون انتظار موافقة الطرف الآخر، مما يضع البوليساريو أمام معادلة صعبة: إما الانخراط في المسار السياسي الأممي على قاعدة الحكم الذاتي، وإما التلاشي التدريجي بقوة الواقع.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"