أحمد الحطاب: سؤال وفرضيات يفرضانهما العقلُ والمنطق

أحمد الحطاب: سؤال وفرضيات يفرضانهما العقلُ والمنطق أحمد الحطاب
عندما نتحدَّث عن المنطِق، فالأمر يتعلَّق بالطريقة la démarche أو الطُّرق التي يتبعها العقل البشري لتحليل وضعٍ من الأوضاع أو حدث من الأحداث أو ظاهرة من الظواهر الاجتماعية أو الطبيعية أو لتحليل نصٍّ من النصوص… وكل ما يتوصَّل إليه العقل البشري، باتِّباعِه هذه الطريقة أو تلك، من أفكارٍ، يجب أن يكون متلائما مع الصواب conforme au bon sens، متجانساً cohérent وعقلاني rationnel.
 
وبصفة عامة، عندما نقرأ القرآنَ الكريمَ بتدبُّرٍ وتبصُّرٍ وبعد نظرٍ، فإن كل آية أو مجموعة آيات تدفع القارئ إلى طرح سؤال أو عدَّة أسئلة حول "لماذا قال أو يقول"، سبحانه وتعالى، كلامَه في هذه الآية أو في هذه المجموعة من الآيات، ولِمَن هو موجَّهٌ هذا الكلام الإلهي…؟
 
في هذه المقالة، سأحاوِل أن أستخرجَ من تحليل جزء من الآية رقم 3 من سورة المائدة، الذي هو : "...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي …"، ما هو السؤال أو ما هي الأسئلة، وما هي الفرضيات، الذي/التي يفرضه/يفرضها المنطق على القارئ المُتدبِّر، المتبصِّر والبعيد النظر.
 
وفي هذا الاتِّجاه، عندما نقول، مثلاً، "فلانٌ أكمل بناءَ الشيءِ"، فالمقصود هو أن هذا الفلان انتهى من بناء الشيء أو أن بناءَ الشيءِ أصبح كاملا بعد أن انتهى فلانٌ من هذا البناء. وهذا يعني أن الشيءَ أصبح كاملَ البنيان ولم يعد في حاجة إلى إضافات. وإذا كان هذا الشيءُ واحداً من الأشياء التي نستعمِلها في حياتنا اليومية، فإكمال بنائه يعني أنه جاهز للاستعمال مباشرةً في اللحظة التي تلي الانتهاءَ من البناء.
 
ولهذا، فحينما قال، سبحانه وتعالى، "...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ…"، فكلِمة "اليومَ" لا يجب إدراكها بالمعنى البشري، أي اليوم الذي تِعدادُه 24 ساعة. بل اليوم عند الله، يعني، في هذه الآية، مدةً مُعيَّنة من الزمان. و"أَكْمَلْتُ" تعني أنه، بعد انقضاء هذه المدة، أصبح الدين كاملا ولم يعد في حاجة إلى إضافات.
 
أما كلمة "لَكُمْ"، فيجوز تفسيرها بوجهين: أولا، المقصود ب"لَكُمْ"، هم قوم محمد (ص) الذين آمنوا برسالته. ثانياً، وبما أن الإسلام هو الدِّين الوحيد الذي أراده الله، سبحانه وتعالى، للبشرية جمعاء، المنصوص عليه في القرآن الكريم، المقصود ب"لَكُمْ" هم الناس جميعا، المؤمنون، في عهد الرسول (ص) وغير المؤمنين في العصور التي تلت وفاةَ الرسول (ص)، ما دام الدينُ (الإسلام) موجَّه للبشرية جمعاء.
 
أما حين قال سبحانه وتعالى "وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي"، ففِعل "أتم" يعني هو الآخر الإكمالَ ولكن، فقط، بالنسبة للحظة التي استُعملَ فيها فعل "أتمَّ". والدليل على ذلك أن اللهِ، سبحانه وتعالى، يقول في الآية رقم 18 من سورة النحل : "وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ"، أي لا يمكن للبشر أن يحسبوا هذه النِّعم، سواءً في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل، وما دام، عزَّ وجلَّ، أنه قادر على خلق المزيد من النِّعَمِ. والنِّعمة في هذا الجزء من الآية رقم 3 من سورة المائدة، هي كل ما فيه خيرٌ للناس، أي كل ما ينفع الناس وينتفعون به في حياتهم اليومية. وهذا يعني أن كل زمان له نِعَمُه أو نِعَمٌ. والنِّعمة الكبرى التي أنعم بها، سبحانه وتعالى، على الناس جميعا، هي نِعمةُ القرآن الكريم ونعمةُ العقل لبني آدم.
 
والفعلان معا، أي "أكمل" و"أتمَّ" يُشيران إلى الإكمال، لكن الأول يشير إلى أن الشيءَ المُكمَّلَ لم يعد بالإمكان قابلا للإضافات. أما الثاني، فهو الآخر يشير إلى الإكمال، لكن بالنسبة للحظةٍ مُعيَّنةٍ. وهذا يعني أنه، بالإمكان إضافة أشياء أخرى إليه.
 
السؤال الذي يفرض نفسَه علينا/يفرضه المنطق علينا، هو : "كيف لله الذي يقول إنه أكمل الدينَ للناس، بينما جَمعُ الأحاديث، الذي قاد إلى تدوين السُّنة كتابةً، بدأ خلالَ القرن الثاني الهجري، أي ما يزيد بكثير عن مائة سنة بعد وفاة الرسول(ص)"؟ وهنا، يجب أن لا يُفهمَ من سؤالي هذا أنني ضد السنة. لا أبدا! لستُ ضد السنة ولا حتى ضد المذاهب. لماذا؟ 
 
أولا، لأن المنطِقَ هو الذي دفعني إلى طرح هذا السؤال. ثانيا، لأن السنة، بعد جمع الأحاديث، وبعد إنشاء المذاهب، هما إنتاج فكري بشري يعبِّران عن ما كان سائدا، في تلك الفترة من الزمان، من خلفياتٍ بشرية فكرية، ثقافية واجتماعية عند الناس الذين وضعوا السُّنَّةَ والمذاهب.
 
ثم لما قال، سبحانه وتعالى، "...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ…"، المنطِق يفرض على الناس أن الدينَ "أصبح كاملا" بقرارٍ إلهي، وكل إضافة له غير ممكنة. اللهمَّ إذا كانت هذه الإضافات إنتاجاً فكرياً معرفياً يسعى إلى تسهيل إدراك القرآن الكريم وأقوال وأفعال الرسول (ص)، الصادرة عنه فعلا وحقيقةً.
 
والمنطقُ يفرض علينا، كذلك، بأن كل إضافة للدين جاءت بعدما قال، سبحانه وتعالى، "...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ…"، يمكن تفسيرُها، حسب إحدى الفرَضِيتين hypothèses التَّاليتين :
الفرضية الأولى: "إما أن مَن وضعوا السُّنةَ والمذاهب اعتبروا الدينَ ناقصا"، وهذا، بالطبع، يسير ضد الإرادة الإلهية.
 
الفرضية الثانية: "إما أن مَن وضعوا السُّنة والمذاهب لم يفهموا قولَ الله، سبحانه وتعالى، المتمثِّل في "...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ…"، وهذا شيءٌ جدُّ مستبعد. 
 
إذن، حسب الاتجاه الذي سارت عليه السُّنة والاتجاهات التي بُنِيت عليها المذاهب الأربعة، لم يبق إلا: 
الفرضِية الثالثة التي تتمثَّلُ في كون مَن وضعوا السُّنَّة والمذاهب لهم من الأهداف ما يناسب توجُّهاتهم الفكرية، الثقافية والاجتماعية.