لا أعتقد أن في قائمة ملوك ورؤساء دول العالم، قائدٌ ينتصر في معركة فُرِضت عليه وعلى وطنه ومواطنيه، طوال أزيد من نصف قرن، تحديداً منذ سنة 1963 من القرن الماضي، ذهب فيها آلاف الجنود الغاربة، ويُتِّم فيها عشراتُ الآلاف من الأطفال الأبرياء، وترمّلت نساءٌ بالآلاف، وثَكِلَت أُخريات، وأصيبت فيها آلافٌ مؤلَّفة بأعطاب وعاهات مستديمة، وعانى هذا القائد وبلده ومواطنوه طوال تلك الفترة الرهيبة، وعلى امتداد ثلاثة أجيال، من الدسائس والمؤامرات، ومن كل أشكال الإعاقة عن التنمية، وعن التمتع بالأمن والأمان!!
وبعد كل هذه المعاناة وأكثر، يُحقق هذا القائد انتصارَه الحاسم، بمباركة ودعم من كل القوى الحية والحكيمة في عالم اليوم... ثم رغم كل ذلك، لا يجد حرجاً في مد يده من جديد لمن تسبب له في كل هذا الضرر، وهذا الأسى، وهذه الحسرة... يمدّ يده من جديد وككل مرة، لِمَن ضيّع عليه وعلى وطنه فرص التقدم والتطور بالسرعة والفعالية المنشودتيْن، مقترحاً عليه، من جديد، وبروح المؤمن المحتسِب، الجلوس إلى طاولة الحوار الهادئ، الأخويّ، والحكيم... ولا يكتفي بهذه الالتفاتة الأصيلة، والتي لا يقدر عليها إلاّ من يجري في عروقه الدم الملكي، ويملأ قلبَه إيمانُ الأتقياء، بل يتخطاها إلى التعبير عن رغبته في إحلال صلح ووئام "يحفظ ماء وجه جميع الأطراف"، تحت شعار "لا غالب ولا مغلوب"!!
هذه الدعوة المتجددة، يمكن وصفها هذه المرة بفرصة العمر، خاصةً وأنه خاطب بها الرئيس الجزائري "باسمه وصفته"، وفي هذه المخاطبة المباشرة بالإسم والصفة خطوة واقعية وملموسة تحفظ ماء الوجه بشكل مُسْبَق، وبالتالي فهي لا نظير لها إلا في الميثولوجيات واليُوثُوبِياتِ صعبةِ التحقّق!!!
المغرب انتصر بعد كفاح العقود الطويلة، ومعاناة السنين، ورغم ذلك، يؤكد جلالة الجالس على عرشه أنه "لا يعتبر هذا انتصاراً"، بل فرصة للمراجعة، والاعتبار، ونقد الذات، من أجل التوافق على خوض تحديات المستقبل الوطنية والإقليمية والجهوية والعالمية يداً في يد، وجنباً إلى جنب!!
في رأيي المتواضع، لو أن قائداً آخر من قادة هذا العالم، في هذه الظرفية العالمية الدقيقة والحرجة، حقق انتصاراً من هذا القَبيل بالذات، لانتهزها فرصة لنفخ الأوداج، ورفع الصوت، واستعمال كل تعابير النكاية والشماتة، ولكان اتّخذَها مُنطلقاً للانتقام والثأر لكل ما سلف ضياعه وفَوَاتُه... ولكنه ملك ابن ملك ابن ملك... أميرٌ للمؤمنين وبالتالي، مطوّقٌ بواجب إعطاء القدوة الحسنة، تماماً كما فعل جده المصطفى في محطات تاريخية كان الانتصار يحالفه فيها على أعداء دينه وخصوم أمّته، فكان يقدّم بعد كلٍّ منها دروساً وعِبَراً، لا تُنسَى، في العفو عند المقدرة، والتسامح مع سَبْقِ الأذى والضرر!!
الدعوة موجةٌ الآن على مستويين اثنين:
المستوى الأول:
إلى الرئيس الجزائري "بشخصه وصفته"، من أجل نبذ صراعات الماضي، والجلوس إلى طاولة الحوار والتصالح والتوافق على الحمل المشترك لتحديات الحاضر والمستقبل، دون الإغفال عن حلم لم يُكتَب له أن يكتمل تحقيقُه بَعد، ألا وهو حلم "المغرب الكبير"؛
المستوى الثاني:
إلى المواطنين المغاربة المحتجزين في تيندوف المسلوبة، للعودة إلى حضن وطنهم بضمانةِ تَمَتُّعِهم بنفس حقوق المواطنين المغاربة قاطبة، دون أدنى تفريق أو تمييز بين المُقيمين المستقرين منهم والعائدين. وهذه دعوة طبيعية ومتوقعة من أب عطوف أصيل إلى أبنائه المصابين بضربة البُعاد والإِبعاد منذ سنوات الحرب الباردة، بعد أن تم اختطافهم عُنوَةً من لدن ميليشيات ذلك الجار والأخ اللذوذ، الذي يعنيه رئيسَه مباشرةً الشقُّ الأولُ من هذه الدعوة.
تُرى، الآن، ما الذي سيصدر عن الطرفين معاً كرد على هذه الدعوة "المُلوكية" الكريمة، الرئيس عبد المجيد تبون من جهة، ومحتجزو مخيمات تيندوف من جهة ثانية؟
هل نتوقع، هذه الكَرّة، ولأول مرةٍ منذ ستة عقود ونيّف، أن تُصادف الدعوةٌ انعكاسَها الإيجابيَّ المنشودَ على مرآة الجار الأخ، ورفيق الدرب والتاريخ والجغرافيا والدين واللغة والدم؟
أم أننا لا قدّر الله سنسمع كلاما كالذي قيل لنا بعد كل الدعوات المماثلة السابقة، بأننا ضعاف، خائفون، مرتعبون من سطوة الدولة القارة؟!!
الساعات القليلة القادمة كفيلة بوضعنا في الصورة كما هي بلا روتوشات، وبلا مراوغات، والأمل يحذونا، تأسِّياً بملكِنا المؤمن المسالم، في أن يُواجهَنا الجار هذه الكَرّةَ بما يُثلج الصدور، ويُحيي الهمم ويُحرّك العزائم...
مجرد أمل، في انتظار ما ستأتي به رياح الشرق!!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي متقاعد.