امحمد الدحماني ورقية بنت سي مبارك الزكراوِية العبدية ونحن أطفال صغار طيلة سنوات السبعينات من القرن الماضي، لم تكن وسائل التواصل متاحة كأيامنا هاته، حيث كان التواصل يحصل بالمباشر، إما يوم السوق الأسبوعي أو عن طريق بعض العطارة أو رقاص (ة) خاص "گالَتْ لِيكْ فْلَانَةْ دُوزِي عَنْدهُمْ نْهَارْ كَذَا...رَاهَا مْزَوْجَةْ وَلْدهَا" أو "وَلْدهَا شَدْ الشَّهَادَةْ" أو "مْخَتْنَةْ وَلْدهَا". وهي شيفرة كانت تلتقطها جدتي رحمها الله رْقِيَّّةْ بَنْتْ سِّي مْبَارَكْ الزَّكْرَاوِيَّةْ الْعَبْدِيَّةْ بصفتها حفَّاظة لأغاني النساء القرويات، وضابطة ممتازة لمختلف موازين المردّدات الشعبية البدوية.
هذا إضافة الى كونها كانت "قَابْلَةْ" مُوَلِّدَةْ ـ "أَنَا رَانِي وَاقِيلََا وَلَّدْتْ قْبِيلَةْ" هكذا كانت تردّد في لحظات افتخارها ـ وما أن تضبط رحمها الله المكان والزمان لتلك "لَعْرَاضَةْ" حتى تشرع في الاستعداد لها بدءا من إخراج "تَكْشِيطَتَهَا" من الصندوق ونشرها فوق حائط مقابل أشعة الشمس حتى تزول منها رائحة "الْكَافُورْ" و "لَغْمُولِيَّةْ"، والبحث عن "طَعْرِيجَتَهَا" المزركشة المركونة بعناية في المرفع الخشبي، تتوسطه صورة قبر سيدي عبد القادر الجيلاني، ووصولا الى فحص ومعالجة "الْبَرْدعَةْ" التي ستمتطي عليها دابتها. ـ وَيَا وَيْلْ من قصدته ولم يحسن الفعل بتلك "الدَّابَةْ".
في اليوم المعلوم تستيقظ على "النَّبُّورِي" رغم أن الحفل مبرمج في المساء "يَا للهْ نَوْصَلْ ونَسْتَرَاحْ ونْوَكَّلْ حْمَارْتِي..."، تمتطي دابتها بعد أن تتدثر بـ "التَّكْشِيطَةْ" التي تشع بهاء وجمالا بـ "الصّْقَلِي" وتضع حلي "طْوَانَـﮜْ الْفَرُّوجْ" في أذنيها "هَادُو رَاهُمِْ جَابْهُمْ لِيَّا جَدَّكْ مَنْ مَرَّاكَشْ وْرَى رْجُوعْ مُحَمَّدْ الْخَامِسْ"، وتلمّع بلغتها الصفراء "هَادِي رَانِي شْرِيتْهَا مَنْ أسْفِي مَلِِّي مْشِيتْ عَنْدْ بْنَاتْ خُويَا رَكَّبْتْ نْيَابْ دْيَالَ الذّْهَبْ".
حين تصل رْقِيَّةْ بَنْتْ سِّي مْبَارَكْ الزَّكْرَاوِيَّةْ الْعَبْدِيَّةْ إلى مكان الحفل المقصود، ـ فهي في كل دُوَّار تعرف من النسوة من تجدن "هَزَّانْ الْمِيزَانْ" وترديد لازمات المرددات الغنائية رفقتها ـ تطرح أسئلتها المعلومة: "ﮜَلْتُوهَا لـ زْهَيْرُو، وفَاطْنَةْ مْرَاتْ لَقْرَعْ، وحَبِيبَةْ مْرَاتْ التَّامِي الْگرَّابْ". فيأتيها الجواب من المستضيفات: "عْلَمْنَاهُمْ أَ خَالْتِي رْقِيَّةْ...مَرْحبَا بِيكْ مَا لِيهَا حْدُودْ...كِيفْ دَايَرْ سِّي مْحَمَّدْ ووْلِيدَاتُو"، وتجيب كعادتها "لَبَاسْ رَاهْ مَسْكِينْ مْسَاعَفْ مْعَ الزّْمَانْ ووَحْدَانِي" وتستطرد بنبرتها الساخرة بالقول: "عَنْدَاكُمْ مَا تْعَلْفُوشْ لِيَّا حْمَارْتِي. رَاهَا هِيَّ رَجْلِيَّا".
قبل أن يبدأ الحفل بشكل رسمي تستل رْقِيَّةْ الزَّكْرَاوِيَّةْ "الطَّعْرِيجَةْ" من داخل "ﮜَاشُوشَهَا" فوق حزامها، وتصر على طلبها: "عَنْدكُمْ شِي مَجْمَرْ؟" فترد عليها بعض المستضيفات بالقول: "غِيرْ شُرْبِي أَتَايْ بَعْدَا أَ خَالْتِي رْقِيَّةْ"... لكنها تصر على المجمر وتستطرد الكلام: "غَادَةْ نْكَمَّلْ كَاسِي. غِيرْ نْسَخَّنْ هَادْ الطَّعْرِيجَةْ...رَانِي شْحَالْ مَا سَخَّنْتهَا مَنْ قْبَلْ مَا يْمُوتْ لَعْرَيْبِي وَلْدْ احْمِيدَةْ"
بعد أن تجتمع الَّلمَةْ ينادي صوت مُولَاتْ الْفَرْحْ "يَا لله أَمِّي رْقِيَّةْ تْوَكْلِي عْلَى الله". فترد بتلقائيتها المعتادة قائلة: "غِيرْ سَاعْفُو مْعَايَا. رَانِي عْيِيتْ. مَا بْقَاتْ صَحَّةْ" وتطرح سؤالا أساسيا: "كَايْنْ شِي قَعْدَةْ"
وتبدأ الحكاية...مرددات نسائية قديمة تتطور مع مرور الزمن:
فَرْحِي أَدَادَةْ
رَا وْلِيدَكْ جَايْبْ الشَّهَادَةْ
مْزَوْقَةْ مَنْ عَنْدْ الْمُدِيرْ
هي "عْصَابَةْ" الإنشاد إذا كان الأمر يتعلق بحفل حصول أحدهم على الشهادة الإبتدائية.
عَنْدُو الزِّينْ
عَنْدُو لَحْمَامْ
دَايْرُو فِ دَارُو
وَأَنَا الزِّينْ
جَابْنِي حْتَى لْبَابْ دَارُو
هي من الغناء المرتبط بتزويج بنت من بنات المنطقة
يأتي طلب من إحداهن قائلة:
ـ "غَنِّي لِِيَّا عْلَى زْمَانِي أَ خَالْتِي رْقْيَّةْ" فتسألها "أنْتِ هَوّْ أشْ سْمِيْتُو. رَانِي مْشَى لِيَّا لْعْقَلْ".
ـ عَبَّاسْ أَ خَالْتِي"
وَرَاگبْ أََ لْوْلِيدْ ورَاگبْ أهَهْ
وَهَدَا عَبَّاسْ أَ رَاگبْ أ لَوْلِيدْ
وَزِينْ الْوَقْفَاتْ و رَاگبْ أَ لَوْلِيدْ
وَخُوكْ أَ حَلُّومَةْ و رَاگبْ أَ لَوْلِيدْ
"نُوضِي شَطْحِي عْلَى رَاجْلَكْ أَ عْوِيشَةْ. غِيرْ بِالْقَاعِدَةْ لََـ تْهَرْسِ الْقَعْدَةْ. رَاهْ مَا عَنْدِ فَاشْ نْوَرَّدْ بَگرَتِي" تنادي إحداهن من الخلف.
وتتوالى المُردَّدات. ومنها من كانت ذات معاني ووصايا:
وَا هْيَا الَخُّوت.. وَا هْيَا الَخُّوت
من صَّاب اللِّي يلَمْكُم
وَا هْيَا الَخُّوت
ويْدِير الرَّايَس مَنكُم
وَا هْيَا الَخُّوت
ويدير الشِّيخ منكم
وَا هْيَا الَخُّوت
ويدير القايد منكم
وَا هيَا الخوت... وَا هْيَا الَخُّوت
من صَّاب اللِّي يلَمْكُم..
لا صوت كان يعلو فوق صوت رْقِيَّةْ بَنْتْ سِّي مْبَارَكْ الزَّكْرَاوِيَّةْ. هي الناظمة "الطبّاعَةْ"، وهي "الرشّامَةْ" بدون مكبرات للصوت. هي مقدمة لأصوات ممزوجة برائحة التربة العبدية يتردد صداها بين أسوار البنايات ليلا. ويتلحفها القمر في ليالي الصيف بالبوادي المغربية بكل تلقائية وعفوية.
إنه عبق التاريخ الذي لن يتكرر. لم تكن رْقِيَّةْ بَنْتْ سِّي مْبَارَكْ الزَّكْرَاوِيَّةْ تتقاضى أجرا عن مساهمتها في الحفلات والأعراس الخاصة بمعارفها في المنطقة، بل أقصى ما تحرص عليه هو أن تكون دابتها بخير وعلى خير، "عَالْفَةْ وشَارْبَةْ" وفي مكان آمن. وغالبا ما كانت لا تعود سوى بقالب سكر "بْيَاضْهَا" وشيء من الحنّاء أو "دْفِينَةْ" كهدية في أحسن الأحوال.