لماذا أُقسِّمُ الناسَ على أساسٍ عقيدي، أو مذهبي؟
لماذا أقولُ إنَّ هذا ملحدٌ وذاك مُؤمنٌ، وهذا مسلمٌ وذاك مسيحي أو بوذي، أو هندوسي أو لا ديني، أو كافرٌ، أو مُهَرْطِقٌ، أو زنديقٌ؟
الصفاتُ والتسمياتُ كثيرةٌ، وتفوقُ حصْرِي لها.
لماذا انتشرتْ في ثقافتنا العربية وتاريخنا الإسلامي كُتب المِلل والنِّحَل، والفِرَق شاعتْ وازدهرتْ في عصُورٍ ماضيةٍ، وأيضًا تزدادُ الآنَ، وكل آن؟
أهلُ السَّلف، خُصوصًا ما يُسمُّونَ أنفسَهُم السلفيةَ الجهاديةَ، أصحابُ نظرةٍ ضيقةٍ ومحدُودةٍ ومُغلقة للدين الإسلامي، فهم لا يروْنَ ما يراهُ المسلمُ المعتدلُ، إذ اعتادوا التكفيرَ، الذي هو أسهلُ طريقٍ لديهم لإخراجِ المسلمين من دينِهم، واتهامهم بالردَّةِ والكُفر، واعتبارهم مُشركينَ، حيثُ يُقسِّمون المُسلمين، لأنَّهم هم في الأساسِ مُنقسمون داخل تيارِهم الواحد.
يُسيِّسُون الدينَ، ويتعاملونَ معه ليس باعتبارِه دينًا بل باعتباره أيديولوجيةً، هدفهم استعادةُ الخلافةِ الإسلاميةِ المهدُورة أو الزائلةِ أو المُفكَّكةِ أو الماضية، وإنْ كانت عندي أنا خلافةً قاتلةً ومقتُولةً، حيثُ رأينا أغلبَ الخُلفاء قد قتلُوا بعضَهم بعضًا، ومارسَ آخرون قتلَهُم، وتاريخ الخلافة الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي ليس بعيدًا عن نظرِ أحدٍ.
وتقسيم المسلمين إلى كُفَّارٍ ومُلحدينَ، يُضْعفُ الدِّينَ والدولةَ معًا، بل يعملُ على إسقاطِ ما لم يسقطْ من تقاليد وقيمٍ وأعرافٍ ونظمٍ.
فهم يُوجِّهُون نُصُوصَ القرآن والسنة لصالح مشرُوعهم السياسي، كأنهم وحدهم العارفون، وغيرُهم لا يفقهون، حتَّى إنَّ ما تركه الأسلافُ من إرثٍ يوظِّفُونه تبعًا لأطماعهم ورغباتهم، ويُضْفُون قداسةً على كتاباتٍ تركها فقهاءٌ وعلماءٌ مُتشددون، ويعتمدونها المرجعيةَ النهائيةَ والأخيرةَ للفكر الديني.
وهؤلاء وغيرهم يهدفُون حسب اعتقادهم من «جهادهم» وتكفيرهم إلى «دَرْءِ فتنة الكُفر حيثُ كانَ في أرضِ الله» على اعتبار أنَّ من يُخالفهم في المذهبِ أو العقيدةِ هم من الكُفَّار.
فهم يروْن الديمقراطيةَ، مثلا، دينًا، من اعتنقها أو آمنَ بها، أو نادى إليها قد «وقع في الشِرْكِ الأكبر»، كأنهم مثلا لم يروا النصُوصَ القرآنيةَ التي تحُضُّ على الحريةِ، وهى واضحةٌ وناصعةٌ، ومُتداولةٌ من فرطِ شُيوعها.
وهؤلاء لا يعنيهم أو كأنهم لا يدركُون أننا لم نعُد نعيشُ في دار الكُفر، أو دار الإسلام، وأنَّ الخلافةَ كانت في زمنٍ مضى وانقضى، ولا رجعةَ إليه، وأننا لسنا في زمنِ الغزوات والفتُوحات، والسبي والرقِّ، والجزيةِ، وصارَ من المُستحيل، كما يحلمُون، إعادة صياغة العالم، ورسم خريطته طبقًا لفكرة الخلافة الإسلامية العالمية، لابد أن نقولَ لهم إنَّ خمسة عشر قرنًا مضتْ على ظُهُور الإسلام، ولابد من التذكير بأن أحداثا وقعتْ، ودولا ظهرتْ، ولغاتٍ ماتتْ، وحضاراتٍ دالتْ، ومياهًا كثيرةً جرت في كلِّ المسطحاتِ المائيةِ حول العالم، وليس الأنهار وحدها، كما يقولُ المثلُ السَّائرُ.
لابد من السعي إلى النهوضِ بالمُسلمين بعيدًا عن أوهامِ وأحلامِ ليستْ سوى في عقول هؤلاء، بمعنى أنه علينا بناء مجتمعاتنا بدلا عن أن ننشغلَ بالآخر، ونقتلَ المُختلف عنَّا بيننا.
شخصيًّا أنصِتُ إلى صوتِ الدِّينِ، ولا أعيرُ اهتمامًا لصوتِ الأيديولوجية الدينية، إذْ شتَّان بينهما، فالدين يُسْرٌ لا عُسْرٌ، والأيديولوجية تبحثُ عن سلطةٍ ما، وعينُها على السيطرةِ والحُكم، وليس الدعوة والوعظ الحسن.
فمن أجلِ النفُوذِ السياسي، يركبُ هؤلاء الدين مُرْخِين أقدامهم على رقابِ العباد، رائين في أنفسِهم أنَّهُم الأعلونَ.
لا أحبُّ لأحدٍ مهما يكُن مكانه أنْ يُسخِّرَ الدينَ لصالحِ أهدافه الدنيويةِ، أو لخدمةِ ما يصبو إليه من سلطةٍ دينيةٍ. فلا أحد له الحقُّ أن يحتكرَ الإسلامَ وحده، ويقولُ إنَّ هذا هو الإسلامُ الحقُّ، وليسَ لجماعةٍ ولا لجهةٍ رسميةٍ كانت أم غير رسميةٍ أن تُكَفِّرَ أحدًا، أو تعلن إحصاءً بعدد المُلحدين، لأنَّهُ ما من شخصٍ يمتلكُ سجلا وثائقيًّا يحصرُ المُلحدينَ، إذْ لا أحدَ يمشِى في الشارعِ ويعلقُ لافتةً يُقرُّ فيها أنه مُلحدٌ.
إنَّ التأويلَ الخاطئ لآياتٍ بعينِها في القرآنِ يُؤدِّى إلى التشدُّدِ، ويُرسِّخُ التطرُّفَ، وينشرُه بين عمومِ الناسِ، لأنه بعيدٌ عن الصوابِ، ويناقضُ حقيقة النصِّ، مُتحجِّجين بأنَّ النصَّ مُتعدِّدُ الأوجهِ، ويحملَ أكثرَ من معنى، أو يحتملُ تفسيراتٍ وشروحاتٍ كثيرةٍ، لأنَّ مثلَ هؤلاء يكذبونَ على الله، قبل أن يكذبوا على المُسلمين، أو على أنفسهم، إذْ هُم في حقيقةِ الأمر يعلمون، أو أنهُّم في جهلِهم سادرون.
فهؤلاء غلاةٌ في تآويلهم، ويُحمِّلُون اللُّغة بغيرِ ما تقولُ، وكذا النصوص بغير ما تحتملُ، ولا الشريعة بغير ما تُقرُّ.
إن الذين يُؤوِّلُون على هواهم، هم في الحقيقة الزنادقةُ والكُفَّارُ والمارِقون، وليس سائر المُسلمين الذين يُكفِّرُهم هؤلاءُ ويُخرِجُونهم من المِلَّةِ.
وليت اجتهاداتهم خاطئة، بل هي عن عمدٍ، ومقصود منها تغليب أفكارهم، وإعلاء قيمتها بين الناس.
فمثلا جماعة الجهاد في مصر، تطلبُ من الدولةِ المصريةِ، بعدما كفرتها وكفَّرتْ حكَّامَها لأنها لا تحكمُ بما أنزل الله، أن تقتلَ سائرَ البشرِ الذين لا يدينُون بالإسلام، طبقًا لتأويلهم للآيةِ الخامسةِ من سُورة التوبة «فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(5).
وهذه الآية اشْتُهِرَتْ بأنها «آيةُ السيف»، بينما لم تنظر هذه الجماعةُ إلى أشهرِ التفاسير التي تركها الأئمةُ والفقهاءُ والعلماءُ والمُفسِّرين في تاريخِ الإسلام، ورأوْا أنَّ الله سبحانه وتعالى يقول في نصٍّ قرآني صريحٍ: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَي فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (256). البقرة.
أي أن الدينَ يتمُ بالاختيارِ، وليس بالجبرِ والإكراه «وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا»(29)، الكهف.
وأيضًا أذكِّرُ هؤلاء الغلاة بقول الله تعالى في مُحكم كتابه «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ» (26)، الغاشية.
وأزيد لعلهم يفقهون «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ» (45)، ق.
وأختمُ بـ «إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا» (19)، المزمل.
وقد يسأل سائلٌ ألا يعرف طائفةُ المُكفِّرين هذه الآيات وغيرها؟ بالطبع هم يعرفون، لكنهم لم يروْا في الإسلامِ ما تراه النفسُ الصحيحةُ، التي لم يصبها اعتلالٌ، ولم تفسدْ.