(.. أنا أعرف ما يحدث، هناك من يطحن الورق، لذلك يجب أن تكون هناك إجراءات ردعية. عليكم أن تروا الدقيق المدعَّم الذي يكلف 16 مليار درهم، ففي بعض المناطق هو غير قابل للاستهلاك).
من سوء حظي أن هذا الخبر تزامن مع كسر خبز بيدي لحظة وجبة الغداء. أخضعتها في الحين لعملية تنقيب، باحثاً وسط هذا الفتات عن بقايا مكوّنات الورق داخل هذه العجينة، وعيناي على مصدر الخبر وأسباب نزوله، لأجد أن الأمر يتعلق برئيس فريق برلماني لأحد مكوّنات الأغلبية الحكومية، وداخل قبة البرلمان وفي جلسة مؤسسة دستوريّاً. ليكون الخبر بهذه الصيغة أكبر صدمة يتلقّاها الخبزيون مثلي.
هل نأكل الورق؟
وبشكل جدّي، هل يمكن أن يصل ببعض بني آدم أن يخلط خبز الكادحين والفقراء بمادة الورق من أجل إشباع نهمه الفظيع؟وبكل صدق، ومنذ قراءتي للخبر، اعتقدت أن في الأمر سوء فهم كبير، حتى اطّلع علينا صاحب “الخبز الورقي” بتصحيح ما أراد قوله، مستعيناً بالبلاغة العربية وبقبّعة أديب لغوي يفصل بين المجاز اللغوي والاستعارة المكنية داخل قبة البرلمان، التي من المفروض أن تكون اللغة فيها حقيقية واقعية موثوقة بالمعطيات والأرقام وحجاجية بالوثائق والمستندات.
فما الذي يمنع رئيس فريق نيابي، ومن الأغلبية، أن يقول بصريح العبارة ما يلي:
إن دعم خبز المغاربة لا يستفيد منه إلا أصحاب المطاحن من خلال تسويق دقيق مغشوش بفاتورات مزوّرة، ويدلي بما يثبت ذلك، مطالباً بلجنة تحقيق في الموضوع.
هل رأيت، السيد رئيس الفريق؟ الأمر لا يحتاج إلى المجاز أو فهلوة الكلام.
ولنفرض حسن النية في مقصديتك بـ“طحن الورق”، فقد بدا من خلال تصحيحك للأمر عبر حسابك الخاص أنك اعتمدت تبريراً سوقياً بمعناه الحقيقي، حين اعتبرت أن أصحاب المطاحن الكبرى ليسوا حمقى ليطحنوا الورق، لأنه أغلى من الدقيق! والحمد لله على هذا الغلاء، لأنه هو المانع الوحيد عند السيد رئيس الفريق الأغلبي، دون أن يكون الأمر متعلقاً في الدرجة الأولى بما هو أخلاقي بامتياز، بل بغلاء الورق فقط.
ولو كان رخيصاً، لاعتُبر طحن الورق مع الدقيق أمراً عادياً! بعيداً عن حُمّى الانتخابات التي ارتفعت حرارتها هذه الأيام داخل مفاصل الفريق الأغلبي في البرلمان، وبلغة المزايدة والشعبوية، لنطرح سؤالاً جوهرياً على السيد رئيس الفريق الأغلبي:
هل هذه الحقيقة/الفضيحة التي أدليتم بها داخل قبة البرلمان وليدة اللحظة؟
وإذا كان الجواب عكس ذلك، فلماذا لزمتم الصمت طيلة هذه المدة؟ أبعد من ذلك، لماذا التزمتم الصمت أمام دعم أباطرة استيراد أضحية العيد قبل سنتين، مما جعل أغلبية المغاربة يكتوون بغلاء الأضحية آنذاك، والبعض منهم حُرم من هذه الفريضة؟ والأمثلة عديدة بعدد ثقوب جيوب المغاربة، بطحن ما تبقى من قدرتهم الشرائية، والاكتفاء بالحد الأدنى لمواكبة هذه السرعة الجنونية في أسعار المواد الغذائية والمدعَّمة أصلاً.
وكيفما كان الحال، نود أن نشكر السيد رئيس الفريق على تفجير “الطحن الورقي” للفواتير واتهام البعض بتزويرها، بل وتهديد الصحة العامة للمواطن المغربي بتوزيع دقيق مغشوش.
نطالب في الوقت نفسه بتحريك مسطرة المساءلة القضائية من طرف النيابة العامة وفتح تحقيق عاجل على خلفية هذه الفضيحة، ذات الصلة بصحة المواطنين من جهة، وبالمال العام الذي يُطحن بالملايير من جهة ثانية.
وما عدا ذلك، فإن آلة الطحن قد وصلت إلى كسر الخبز لسدّ رمق جائع في هذا الوطن.
أليس للجشع والنهب حدّ في هذا البلد؟
من هنا تبدأ ضبط السرعتين، ولنا أمل في ذلك.
يوسف غريب، كاتب صحفي