عبد السلام بنعبد العالي: الكتابة وخلق المسافات

عبد السلام بنعبد العالي: الكتابة وخلق المسافات عبد السلام بنعبد العالي

حاول رولان بارت أن يحصر المسوغات التي تدفعه إلى الكتابة، فعرضها جميعها من غير أن يشغل باله بما قد يكون بينها من تناقض، أو حتى من تفاضل، فجعلها تتنوع بين الدوافع الذاتية والإكراهات الموضوعية.

فعن السؤال "ما جدوى الكتابة؟" الذي وجهته إليه صحيفة إيطالية سنة 1969رد قائلا: "ليس في وسعي إلا أن أعدد الأسباب التي أتصور أنني أكتب بدافع منها:

    1      أنا أكتب إشباعا للذة، وهي، كما نعلم، لذة غير بعيدة عن الافتتان الإيروتيكي. Bas du formulaire

    2      كما أنني أكتب لأن الكتابة تخلخل الكلام، وتهز الأفراد والأشخاص، وتقوم بعمل نعجز عن تبين مصدره.

   3       أكتب كي أحقق "موهبة"، وأنجز عملا مميزا، وأحقق اختلافا وأحدث فروقا.

   4      أكتب كي يعترف بي، وأحصل على مكافأة، وأكون موضع حب واحتجاج وتأييد.

   5      أكتب كي أنجز مهام أيديولوجية، أو ضد الأيديولوجيا.

   6      أكتب بإيعاز أيديولوجيا متسترة، وتقسيمات مناضلة، وتقويمات مستدامة.

   7      أكتب إرضاء لأصدقاء، ونكاية بأعداء.

   8      أكتب مساهمة في إحداث شروخ في المنظومة الرمزية لمجتمعنا.

   9      أكتب إبداعا لمعان جديدة، أي لقوى جديدة، للتمكن من الأشياء بطريقة جديدة، ولخلخلة تسلط الدلالات والعمل على تغييره.

   10    وأخيرا، أكتب إثباتا للقيمة العليا لفعالية تعددية لا دوافع من ورائها، ولا أهداف ترمي إليها، ولا تعميم تستهدفه، شأنها في ذلك شأن النص ذاته".

 

تصدر الكتابة إذن عن دوافع ذاتية وعوامل شخصية، إلا أنها قد تجد مبرراتها في المجتمع بكامله، فتمتد في مؤسساته ومحدداته المادية والمعنوية. يبدأ بارت بالاعتراف بأن الكتابة، في أصلها، لذة، وأنها قريبة من الافتتان الإيروتيكي، أي إنها علاقة جسدية-رمزية بالنص، بالمعنى الذي بسطه الكاتب نفسه لاحقا في كتابه "لذة النص". ثم إن الكتابة قوة تفكيك للغة السائدة وللهويات المتخشبة، تشتغل في القارئ وفي الثقافة بطرق لا يمكن ضبطها. ثم هي نوع من إثبات الذات. وهي كذلك ابتكار لعلاقات جديدة مع الذات ومع الأشياء. كما أنها قد تكون كتابة "لا دوافع من ورائها"، كتابة تشبه "النص" نفسه: تعددية، بلا هدف مسبق، بلا تعميم، أقرب إلى فعل اللعب أو الفن الخالص.

 

ليس من الضروري، بطبيعة الحال، أن تعمل كل هذه الدوافع المتناقضة التي تكمن وراء الكتابة، فتجعلها بين الذاتي والموضوعي، بين المعقول واللامعقول، بين الافتتان والفتنة، بين العقل والثورة، بين التوازن والاختلال، ليس من الضروري أن تعمل مجتمعة، فقد تكون الكتابة استجابة لأحدها، أو للبعض منها دون الآخر، كأن تكون مجرد استجابة لهوى شخصي، أو تكون عملا نضاليا "بإيعاز أيديولوجية متسترة، وتقسيمات مناضلة، وتقويمات مستدامة" على حد قول المفكر الفرنسي. إلا أن هذه الدوافع تظل تتأرجح بين اختيارات ثلاثة لا رابع لها: دوافع شخصية (لذة، تفرد، اعتراف)، ودوافع اجتماعية أو سياسية (مهام أيديولوجية، شروخ في المنظومة الرمزية)، ودافع ثالث لعله أكثرها أهمية: أن تكون الكتابة فعلا حرا بلا غاية، "فعالية تعددية" شبيهة باللعب.

 

كل هذه الدوافع تجعل الكتابة دوما أمرا ضروريا مرغوبا فيه، بل تجعلها هي نفسها تحقيقا للذات، وتفاعلا مع الواقع بأبعاده المادية والرمزية جميعها.

 

إذا وضعنا هذه الخريطة على مشهدنا الثقافي اليوم، فربما اتضح لنا أن "قوة الأشياء" أصبحت تشل عندنا "قوة الكلمات"، وأن كل هذه المسوغات آخذة في التعطل، وأن الدوافع التي من شأنها أن تدفع الكاتب نحو الكتابة في تناقص متواصل، بل إن بعض الكتاب لم يعودوا يرون في ما يقومون به إلا نوعا من الهروب من الواقع الفعلي، وربما خيانته.

 

صحيح أن منهم من يصر، حتى في هذه الحال، على ممارسة الكتابة، إلا أننا نلحظ أن إصراره على أن لا يهرب بعيدا، وحرصه "كي لا يخون الواقع الفعلي"، يجبرانه على الالتصاق المفرط بهذا الواقع، فتتحول الكتابة عنده من قدرة على الخلخلة وإحداث الشروخ، إلى عمل "أمين" ينشد إلى ما يجري، وينصاع إلى "قوة الأشياء".

 

لعل هذه هي الحال التي أصبح يسمح بها الراهن العربي، وما يعج به من عرقلة للتطور وتراجع في المكتسبات، والتي تجعل الكاتب، لا يرى أي جدوى فيما يقوم به، بل ربما تدفعه إلى أن يعتقد أن في كل عمل فكري، رمزي أو تجريدي نوعا من "البذخ الثقافي"، والابتعاد عن مجريات الأمور. وحينئذ لا يعود أمامه إلا الاختيار الصعب بين أن يستسلم لبادئ الرأي وينصاع للوصف التقريري، أو يركن إلى الصمت ويستسلم للشعور بالخجل من الكتابة.

 

وإذا ما عدنا إلى قائمة بارت، فإننا نستطيع أن نقول إن كثيرا من كتابنا اليوم لم يعودوا يكتبون إلا تحت تأثير "الدوافع الوسطى"، أي الحاجة إلى الاعتراف، ونيل الجوائز، وتحصين المكانة، أي ما سماه بارت نفسه الرغبة في أن "أكون موضع حب واحتجاج وتأييـد". إلا أن هذه الدوافع، حتى إن كانت مشروعة في ذاتها، فحين تصبح غاية الكتابة، تنقلب على نفسها: فتتحول اللذة إلى استهلاك، والاختلاف إلى علامة تجارية، وهي تفرغ الكتابة من قدرتها على إحداث "شروخ في المنظومة الرمزية".

 

ومع ذلك، فإن المشهد الثقافي اليوم يكشف انحسارا عند هذه الدوافع، وسعيا حثيثا نحو الشهرة والجوائز. إلا أن الكتاب الذين لا يقتنعون بهذه الشهرة ولا يقنعون بها، غالبا ما يختارون مصيرا آخر: إما الانزلاق إلى كتابة وصفية بلا مسافة نقدية، وإما الصمت.

 

النوع الأول يظل كتابة تقريرية سريعة أقرب إلى الصحافة اليومية، يغدو فيها النص تعليقا ظرفيا بدل أن يكون إبداعا وتفكيكا. إن كان معظمنا يشجب هذا الانزلاق نحو "كتابة بلا مسافات"، فيظهر أنه لا يأخذ "صمت الكتاب" دائما في معناه السطحي. ذلك أن هناك فرقا بين صمت وصمت: صمت انهزامي أقرب إلى الانقطاع أو العجز، وصمت فعال أقرب إلى "الإضراب عن الكتابة". هذا الصمت يحمل طابعا احتجاجيا: فهو امتناع مقصود عن إنتاج نصوص تعيد إنتاج السائد، أو تتواطأ مع الحدث في تلقائيته. وهو شكل من أشكال المقاومة الرمزية، كي لا تغدو الكتابة مجرد وصف بلا خلخلة. في هذا المعنى قد يكون الصمت نفسه أبلغ من الكلام، إذ يعلن أن الكتابة لا يمكن أن تستمر إلا بوصفها فعلا حرا، قادرا على الخلق والتغيير، لا بوصفها نسخا للظاهر وإعادة إنتاجه.

 

حين نفهم الصمت هنا كـ"إضراب عن الكتابة"، يصبح له وزن رمزي يختلف عن مجرد العجز أو الكسل. الإضراب في أي مجال هو توقف مقصود عن العمل يظهر رفضا لشروطه أو اعتراضا على مساره، وهو في ذاته فعل احتجاجي. بالقياس على ذلك، "إضراب الكاتب عن الكتابة" هو رفض للشروط الثقافية أو التسويقية التي تحاصر النص، رفض لأن تتحول الكتابة إلى مجرد استهلاك، أو إلى وصف سطحي للأحداث، أو جري نحو المكاسب والاعترافات. هذا النوع من الصمت لا يعني غياب الفكر، بل قد يكون أقصى أشكال الكتابة بمعناها الأخلاقي: الامتناع عن إنتاج نصوص، تساهم في إعادة إنتاج الوضع القائم. إنه إعلان بأن الكتابة، كي تظل كتابة، تحتاج إلى شروط تسمح لها بالمسافة والخلق والنقد، فإذا انعدمت هذه الشروط، فـ"الصمت أصدق أنباء من الكتب".

 

عرف تاريخ الأدب كتابا اختاروا هذا الصمت احتجاجا، مثل رامبو الذي أوقف الشعر في ذروة موهبته، أو سالينجر الذي انسحب بعد عمله الأشهر "الحارس في حقل الشوفان" إلى عزلة تامة، أو جان جينيه الذي توقف طويلا قبل أن يعود بنصوص سياسية- تأملية. صمت هؤلاء الكتاب لم يكن عجزا بل "إضراب" عن شروط الكتابة السائدة.

 

وبعد، هل يمكن للكتابة أن تحافظ على قدرتها على الخلق والخلخلة بدل أن تتحول إلى نسخ للظاهر، أو إلى صمت يائس؟

 

عن هذا السؤال ربما يكمن الجواب في النقطة الأخيرة التي أثارها بارت: الكتابة كفعل بلا هدف مسبق، كقيمة في ذاتها، أن تكون الكتابة فعلا حرا بلا غاية، "فعالية تعددية" شبيهة باللعب. لعل هذه الفعالية وحدها هي التي من شأنها أن تعيد إلى الكتابة قدرتها على "خلق المسافات"، و"التخلص مما نملك".

عن: مجلة " المجلة"