تخليق‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬ يبدأ من تطهير الأحزاب من الديناصورات

تخليق‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬ يبدأ من تطهير الأحزاب من الديناصورات
في‭ ‬خطاب‭ ‬افتتاح‭ ‬الدورة‭ ‬التشريعية‭ ‬(10‭ ‬أكتوبر 2023)،‭ ‬وجه‭ ‬الملك‭ ‬محمد‭ ‬السادس‭ ‬رسالة‭ ‬قوية‭ ‬وواضحة‭ ‬إلى‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية،‭ ‬داعيا‭ ‬المسؤولين‭ ‬الحزبيين‭ ‬إلى‭ ‬تحمل‭ ‬مسؤولياتهم‭ ‬الحقيقية‭ ‬في‭ ‬تأطير‭ ‬المواطنين‭ ‬وتنظيمهم،‭ ‬والارتقاء‭ ‬بمستوى‭ ‬الممارسة‭ ‬السياسية،‭ ‬عبر‭ ‬اختيار‭ ‬قيادات‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التجديد‭ ‬والإصلاح‭ ‬وتحمل‭ ‬الأمانة‭.‬
 
وإذا‭ ‬كان‭ ‬الإصلاح‭ ‬السياسي‭ ‬يشمل‭ ‬جميع‭ ‬الفاعلين‭ ‬السياسيين،‭ ‬فإنه‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬الأحزاب‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬باقي‭ ‬المؤسسات،‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬المنظومة‭ ‬السياسية‭ ‬العامة‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الأحزاب‭ ‬في‭ ‬إفراز‭ ‬النخب‭ ‬المدبرة‭ ‬للشأن‭ ‬العام‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬المغرب‭ ‬يعيش‭ ‬اليوم‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أعقد‭ ‬الظواهر‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬في‭ ‬تاريخه‭ ‬الحديث:‭ ‬انسداد‭ ‬أفق‭ ‬الترقي‭ ‬الحزبي،‭ ‬وعزوف‭ ‬الشباب‭ ‬عن‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الحزبي،‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬القيادات‭ ‬الحزبية‭ ‬الحالية،‭ ‬يمينا‭ ‬ويسارا،‭ ‬تفصل‭ ‬الأحزاب‭ ‬على‭ ‬مقاس‭ ‬بقائها‭ ‬في‭ ‬كرسي‭ ‬الزعامة،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬الشباب‭ ‬رهائن‭ ‬لهذا‭   ‬«الانحصار»‭ ‬الذي‭ ‬يدعي‭ ‬البعض،‭ ‬كذبا‭ ‬أو‭ ‬تزلفا،‭ ‬أنه‭ ‬«ديمقراطية‭ ‬داخلية»‭ ‬و«سيادة‭ ‬حزبية»‭ ‬و«ضرورة‭ ‬سياسية»‭. ‬
 
لقد‭ ‬أصبح‭ ‬هذا‭ ‬الانحصار‭ ‬تعبيرا‭  ‬عميقا‭ ‬عن‭ ‬فقدان‭ ‬عميق‭ ‬للثقة‭ ‬في‭ ‬الفعل‭ ‬السياسي‭ ‬ذاته،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لدى‭ ‬الشباب‭ ‬الذي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬إطارات‭ ‬سياسية‭ ‬حاملة‭ ‬لطموحاته،‭ ‬وإنما‭ ‬لدى‭ ‬شباب‭ ‬الأحزاب‭ ‬الذي‭ ‬تدرجوا‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬المسؤولية،‭ ‬وذلك‭ ‬بعدما‭ ‬تحولت‭ ‬الأحزاب‭ ‬إلى‭ ‬كيانات‭ ‬تعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬ذاتها‭ ‬وفق‭ ‬منطق‭ ‬مغلق‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬إلا‭ ‬بالولاء‭ ‬للزعيم،‭ ‬ولا‭ ‬يفتح‭ ‬أبوابه‭ ‬إلا‭ ‬للمقربين‭ ‬أو‭ ‬القادمين‭ ‬بالمظلات،‭ ‬إذ‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬«قريب‭ ‬هذا‭ ‬الوزير»أو‭ ‬«ابن‭ ‬ذلك‭ ‬القائد»‭ ‬أو‭ ‬«مريد‭ ‬ذلك‭ ‬المستشار»،‭ ‬حتى‭ ‬تنفتح‭ ‬أمامك‭ ‬أبواب‭ ‬المكاتب‭ ‬السياسية‭ ‬واللجن‭ ‬التنفيذية‭ ‬أو‭ ‬المناصب‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬العمومية،‭ ‬فتسقط‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬المسؤولية‭ ‬بمظلة‭ ‬الزبونية!
 
لا‭ ‬يمكن‭ ‬للأحزاب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬وسيطا‭ ‬نزيها‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تأطير‭ ‬المواطنين‭ ‬سياسيا‭ ‬وتنظيم‭ ‬مشاركتهم‭ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬العام،‭ ‬وما‭ ‬لم‭ ‬تسمح‭ ‬لهم‭ ‬بالوصول‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬المراكز‭ ‬للمساهمة‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬البرامج‭ ‬والرؤى‭ ‬والمقترحات‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬تطلعات‭ ‬فئات‭ ‬المجتمع،‭ ‬وما‭ ‬لم‭ ‬تضطلع،‭ ‬أيضا،‭ ‬بوظيفة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬ترشيح‭ ‬الكفاءات‭ ‬وتداول‭ ‬السلطة‭ ‬عبر‭ ‬الانتخابات،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الأحزاب‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تدبر‭ ‬الشأن‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬الأغلبية،‭ ‬كما‭ ‬تمارس‭ ‬دورا‭ ‬رقابيا‭ ‬على‭ ‬أداء‭ ‬الحكومة‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬المعارضة،‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬أداة‭ ‬رئيسة‭ ‬لضمان‭ ‬التعددية‭ ‬والتوازن‭ ‬السياسي‭ ‬داخل‭ ‬الدولة؛‭ ‬والسؤال‭ ‬هنا:‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتحقق‭ ‬الممارسة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬بأحزاب‭ ‬مغلقة‭ ‬تعيش‭ ‬بأكياس‭ ‬دم‭ ‬مستعملة؟‭ ‬وهل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬العملية‭ ‬السياسية‭ ‬برمتها‭ ‬بأحزاب‭ ‬تفتقد‭ ‬إلى‭ ‬ماكينات‭ ‬التهوية؟
 
يُفترض‭ ‬في‭ ‬الأحزاب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مدارس‭ ‬للتكوين‭ ‬السياسي‭ ‬ومختبرات‭ ‬للديمقراطية‭ ‬الداخلية‭ ‬ومشاتل‭ ‬للنخبة،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬مراكز‭ ‬منغلقة‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬تتحكم‭ ‬فيها‭ ‬شبكات‭ ‬انتهازية‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تحكمها‭ ‬القيم‭ ‬والمبادئ،‭ ‬كما‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬وكالات‭ ‬خاصة‭ ‬مكلفة‭ ‬بتوزيع‭ ‬المواقع‭ ‬بدل‭ ‬إنتاج‭ ‬الأفكار،‭ ‬وبيع‭ ‬التزكيات‭ ‬عوض‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬البدائل‭.‬
 
إن‭ ‬الشاب‭ ‬المغربي‭ ‬الذي‭ ‬يختار‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬حزب‭ ‬ما،‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬بدافع‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬المساهمة‭ ‬والتغيير‭ ‬والإجابة‭ ‬عن‭ ‬انتظارات‭ ‬الفئة‭ ‬التي‭ ‬يمثلها،‭ ‬لكنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يصطدم‭ ‬بإطارات‭ ‬متحجرة‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬الاتساع‭ ‬اللازم‭ ‬لتفجير‭ ‬الطاقات،‭ ‬إذ‭ ‬بات‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فيها‭ ‬محسوم‭ ‬سلفا،‭ ‬والتراتبية‭ ‬مغلقة،‭ ‬والمسارات‭ ‬محددة‭ ‬بدقة‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬بالصعود‭ ‬إلا‭ ‬لمن‭ ‬يحسن‭ ‬الاصطفاف‭ ‬والتمسح‭ ‬ولعق‭ ‬حذاء‭ ‬الزعيم،‭ ‬أو‭ ‬لمن‭ ‬تجمعه‭ ‬صلة‭ ‬قرابة‭ ‬دموية‭ ‬أو‭ ‬مصلحية‭ ‬بالممسك‭ ‬بزمام‭ ‬الحزب‭. ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الأحزاب‭ ‬التي‭ ‬ترفع‭ ‬شعار‭ ‬تخليق‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬ومصالحة‭ ‬الشباب‭ ‬مع‭ ‬السياسة،‭ ‬والمقصود‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬اليسار‭ ‬بجميع‭ ‬أطيافه،‭ ‬تعرف‭ ‬تناقضا‭ ‬صارخا‭ ‬بين‭ ‬الخطاب‭ ‬والممارسة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المحطات‭ ‬التاريخية،‭ ‬منذ‭ ‬لحظة‭ ‬الاستقلال،‭ ‬إلى‭ ‬حدوث‭ ‬انشقاقات‭ ‬أو‭ ‬خروج‭ ‬حركات‭ ‬تصحيحية‭ ‬تطالب‭ ‬برأس‭ ‬هذا‭ ‬الزعيم‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬القيادات‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وتنفخ‭ ‬أوداجها‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬أوتيت‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬لـ‭ ‬«تشجيع»‭ ‬الشباب،‭ ‬تعيد‭ ‬انتخاب‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مؤتمر،‭ ‬وتجد‭ ‬لذلك‭ ‬مسوغات‭ ‬قانونية‭ ‬أو‭ ‬«تخترعها‭ ‬اختراعا»‭ ‬لتبرير‭ ‬بقاءها‭ ‬في‭ ‬المنصب‭ ‬لولاية‭ ‬ثانية‭ ‬وثالثة‭ ‬ورابعة‭ ‬وخامسة‭.. ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يلتحد‭. ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬بعضهم‭ ‬مستمر‭ ‬في‭ ‬منصبه‭ ‬لما‭ ‬يربو‭ ‬عن‭ ‬عقدين،‭ ‬يتوارث‭ ‬الزعامة‭ ‬كما‭ ‬تُورث‭ ‬الممتلكات،‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬الولاية‭ ‬الثالثة‭ ‬والرابعة‭ ‬والخامسة‭ ‬مجرد‭ ‬أرقام‭ ‬لا‭ ‬تثير‭ ‬الدهشة،‭ ‬بل‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬التوقع‭ ‬والهتاف‭ ‬بـ‭ ‬«حياة‭ ‬الزعيم»‭ ‬و«رجل‭ ‬المرحلة»‭  ‬و«القيادي‭ ‬الاستثنائي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬الزمان‭ ‬بمثله»‭.‬
 
لقد‭ ‬أُفرغت‭ ‬أغلب‭ ‬الأحزاب‭ ‬المغربية‭ ‬فكرة‭ ‬التداول‭ ‬من‭ ‬مضمونها،‭ ‬وصار‭ ‬الحزب‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬مقاولة‭ ‬خاصة،‭ ‬تُدار‭ ‬وفق‭ ‬منطق‭ ‬المصلحة‭ ‬والولاء‭ ‬والاستقراب‭ ‬والاحتواء‭ ‬و«النضالية‭ ‬المدفوعة‭ ‬الأجر»،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬الكفاءات‭ ‬الشابة‭ ‬تصطدم‭ ‬بعدم‭ ‬وجود‭ ‬قناة‭ ‬سالكة‭ ‬للترقي،‭ ‬لأنها‭ ‬جدارا‭ ‬صلبا‭ ‬من‭ ‬المحسوبية‭ ‬والتزكية‭ ‬الانتقائية‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬طموحها‭ ‬المشروع‭. ‬بل‭ ‬حين‭ ‬تظهر‭ ‬كفاءات‭ ‬جديدة‭ ‬ذات‭ ‬حس‭ ‬قيادي‭ ‬واضح،‭ ‬يتم‭ ‬إرداؤها‭ ‬بنيران‭ ‬صديقة،‭ ‬بينما‭ ‬يتم‭ ‬إسقاط‭ ‬أسماء‭ ‬أخرى‭ ‬محمولة‭ ‬بالمظلات،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تمر‭ ‬عبر‭ ‬المسار‭ ‬الطبيعي‭ ‬للنضال‭ ‬الداخلي‭ ‬أو‭ ‬التدرج‭ ‬التنظيمي‭. ‬إنها‭ ‬أسماء‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬أصحابها‭ ‬قاعات‭ ‬الاجتماعات،‭ ‬ولا‭ ‬مرارة‭ ‬النقاشات‭ ‬القاعدية،‭ ‬لكنها‭ ‬تتقدم‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة،‭ ‬وتُقدَّم‭ ‬للرأي‭ ‬العام‭ ‬بوصفها‭ ‬رموزا‭ ‬للتجديد‭ ‬والانفتاح،‭ ‬وأنها‭ ‬حاصلة‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬الشهادات‭ ‬من‭ ‬أعتى‭ ‬المعاهد‭ ‬والكليات‭ ‬العالمية‭.‬
 
إن‭ ‬السقوط‭ ‬بالمظلات‭ ‬داخل‭ ‬الأحزاب،‭ ‬والذي‭ ‬يهم‭ ‬الأبناء‭ ‬والأقارب،‭ ‬لا‭ ‬يضر‭ ‬فقط‭ ‬بالمصداقية‭ ‬الداخلية‭ ‬للأحزاب،‭ ‬بل‭ ‬يزرع‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬المناضلين‭ ‬الشباب‭ ‬شعورا‭ ‬عميقًا‭ ‬بالغبن‭ ‬والإقصاء‭. ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬ممنوع‭ ‬من‭ ‬تجاوز‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬من‭ ‬الترقي‭ ‬الحزبي،‭ ‬وممنوع‭ ‬من‭ ‬الإمساك‭ ‬بالقيادة،‭ ‬ولا‭ ‬يسمح‭ ‬له‭ ‬إلا‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬عاملا‭ ‬مساعدا‭ ‬للرئيس‭ ‬يأتمر‭ ‬بأمره‭ ‬ولا‭ ‬يبادر‭ ‬بأي‭ ‬شيء‭ ‬إلا‭ ‬بالرجوع‭ ‬إليه‭. ‬فكيف،‭ ‬إذن،‭ ‬يمكن‭ ‬لشاب‭ ‬أن‭ ‬يؤمن‭ ‬بجدوى‭ ‬الالتزام‭ ‬الحزبي‭ ‬والانخراط‭ ‬في‭ ‬العملية‭ ‬السياسية‭ ‬لبلاده،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬يدرك‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬اليقين‭ ‬أن‭ ‬«الكفاءة»‭ ‬لا‭ ‬تكفي،‭ ‬وأن‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬القيادة‭ ‬تمر‭ ‬عبر‭ ‬استرضاء‭ ‬الزعيم؟‭ ‬
 
إنها‭ ‬مفارقة‭ ‬قاسية‭ ‬بين‭ ‬شاب‭ ‬مناضل‭ ‬يقضي‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬الهياكل‭ ‬القاعدية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يلتفت‭ ‬إليه‭ ‬رغم‭ ‬كفاءته،‭ ‬ورغم‭ ‬حسه‭ ‬السياسي‭ ‬العالي،‭ ‬ورغم‭ ‬إلمامه‭ ‬بالوضع‭ ‬العام،‭ ‬ورغم‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬الاقتراح‭ ‬والتدافع‭ ‬والترافع،‭  ‬ووافد‭ ‬جديد‭ ‬يُمنح‭ ‬المنصة‭ ‬والصفة‭ ‬في‭ ‬«لحظة‭ ‬حظ»،‭ ‬فقط‭ ‬لأنه‭ ‬درس‭ ‬في‭ ‬«باريس»‭ ‬أو‭ ‬«واشنطن»‭ ‬أو‭ ‬لأنه‭ ‬ابن‭ ‬عائلة‭ ‬فلان‭ ‬أو‭ ‬فرتلان‭. ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬إطفاء‭ ‬أي‭ ‬حماس‭ ‬لدى‭ ‬الشباب،‭ ‬كما‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬إفراغ‭ ‬الفعل‭ ‬السياسي‭ ‬من‭ ‬روحه‭ ‬التربوية‭. ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬حين‭ ‬تغيب‭ ‬العدالة‭ ‬داخل‭ ‬الحزب،‭ ‬تغيب‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭. ‬وحين‭ ‬تصبح‭ ‬الزعامة‭ ‬مكافأة‭ ‬على‭ ‬القرب‭ ‬من‭ ‬الزعيم‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬الكفاءة‭ ‬أو‭ ‬القدرة،‭ ‬يتحول‭ ‬الحزب‭ ‬إلى‭ ‬صورة‭ ‬مصغرة‭ ‬عن‭ ‬«الاستبداد»‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬ينتقد‭ ‬أعطابه‭ ‬ومآلاته‭ ‬وتأثيراته‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭. ‬
 
هكذا،‭ ‬إذن‭ ‬تنكفئ‭ ‬الأحزاب‭ ‬على‭ ‬ذاتها،‭ ‬لأنها‭ ‬تعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬نفس‭ ‬البنية‭ ‬السلطوية‭ ‬التي‭ ‬تدّعي‭ ‬مقاومتها،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬التغيير‭ ‬مجرد‭ ‬شعار‭ ‬الاستهلاك‭ ‬العمومي؛‭ ‬وهي‭ ‬إذ‭ ‬تفعل‭ ‬ذلك،‭ ‬فإنها‭ ‬تتناسى‭ ‬أن‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬وُلدوا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الانفتاح‭ ‬الرقمي،‭ ‬وأدركوا‭ ‬مبكرًا‭ ‬معنى‭ ‬الحرية‭ ‬والاختيار،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقبلوا‭ ‬بالولاءات‭ ‬العمياء،‭ ‬ولا‭ ‬بالوقوف‭ ‬في‭ ‬طابو‭ ‬الانتظار،‭ ‬أو‭ ‬لممارسة‭ ‬الإقامة‭ ‬الدائمة‭ ‬في‭ ‬جوقة‭ ‬المطبلين‭.‬
 
لقد‭ ‬أعاد‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬تعريف‭ ‬المشاركة‭ ‬السياسية‭ ‬خارج‭ ‬القنوات‭ ‬الرسمية،‭ ‬أي‭ ‬خارج‭ ‬الأحزاب‭ ‬والنقابات‭ ‬والجمعيات،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التحول،‭ ‬على‭ ‬حيويته،‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بديلا‭ ‬عن‭ ‬مؤسسات‭ ‬الوساطة،‭ ‬لأن‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يفقد‭ ‬أحزابه‭ ‬يفقد‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬تأطير‭ ‬الصراع،‭ ‬وعلى‭ ‬تحويل‭ ‬الاحتجاج‭ ‬إلى‭ ‬اقتراح‭.‬
 
إن‭ ‬المسؤولية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬بنية‭ ‬حزبية‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تتجدد‭. ‬أحزاب‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬أسيرة‭ ‬لأسماء‭ ‬تجاوزها‭ ‬الزمن،‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬القيادات‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬رموزا‭ ‬مقدسة‭ ‬لا‭ ‬تُمس،‭ ‬ومع‭ ‬النقد‭ ‬كخيانة،‭ ‬ومع‭ ‬الطموح‭ ‬كتهديد‭. ‬
 
لقد‭ ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬أن‭ ‬تدرك‭ ‬الأحزاب‭ ‬أن‭ ‬الشباب‭ ‬فقدوا‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬الزعامات‭ ‬القائمة،‭ ‬وفي‭ ‬أدواتها،‭ ‬وفي‭ ‬خطابها‭. ‬كما‭ ‬أنهم‭ ‬باتوا‭ ‬يرفضون‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬مسرحية‭ ‬تتكرر‭ ‬فصولها،‭ ‬ويبحثون‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬جديد‭ ‬للفعل‭ ‬السياسي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬تكافؤ‭ ‬الفرص‭ ‬والشفافية‭. ‬ولذلك،‭ ‬إذا‭ ‬أرادت‭ ‬الأحزاب‭ ‬أن‭ ‬تستعيد‭ ‬ثقة‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشباب،‭ ‬فعليها‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬بإصلاح‭ ‬حياتها‭ ‬الداخلية،‭ ‬بطرد‭ ‬الفاسدين‭ ‬والمفسدين‭ ‬من‭ ‬صفوفها،‭ ‬وتسقيف‭ ‬الولايات‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ديمقراطي‭ ‬غير‭ ‬خاضع‭ ‬لحسابات‭ ‬الهيمنة‭ ‬والتحكم،‭ ‬والابتعاد‭ ‬عن‭ ‬طبخ‭ ‬الأجهزة،‭ ‬وإنشاء‭ ‬الهياكل‭ ‬الحزبية‭ ‬على‭ ‬مقاس‭ ‬الزعيم،‭ ‬وإعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬للتدرج‭ ‬الحزبي‭ ‬كقيمة‭ ‬أخلاقية‭ ‬تضمن‭ ‬الاستمرارية‭ ‬والمصداقية‭.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن
رابط العدد هنا