في خطاب افتتاح الدورة التشريعية (10 أكتوبر 2023)، وجه الملك محمد السادس رسالة قوية وواضحة إلى الأحزاب السياسية، داعيا المسؤولين الحزبيين إلى تحمل مسؤولياتهم الحقيقية في تأطير المواطنين وتنظيمهم، والارتقاء بمستوى الممارسة السياسية، عبر اختيار قيادات قادرة على التجديد والإصلاح وتحمل الأمانة.
وإذا كان الإصلاح السياسي يشمل جميع الفاعلين السياسيين، فإنه يبدأ من الأحزاب قبل أن يمتد إلى باقي المؤسسات، ما دامت المنظومة السياسية العامة تعتمد على الأحزاب في إفراز النخب المدبرة للشأن العام. بيد أن المغرب يعيش اليوم واحدة من أعقد الظواهر السياسية والاجتماعية في تاريخه الحديث: انسداد أفق الترقي الحزبي، وعزوف الشباب عن الانخراط في العمل الحزبي، ما دامت القيادات الحزبية الحالية، يمينا ويسارا، تفصل الأحزاب على مقاس بقائها في كرسي الزعامة، مما يجعل الشباب رهائن لهذا «الانحصار» الذي يدعي البعض، كذبا أو تزلفا، أنه «ديمقراطية داخلية» و«سيادة حزبية» و«ضرورة سياسية».
لقد أصبح هذا الانحصار تعبيرا عميقا عن فقدان عميق للثقة في الفعل السياسي ذاته، ليس فقط لدى الشباب الذي يبحث عن إطارات سياسية حاملة لطموحاته، وإنما لدى شباب الأحزاب الذي تدرجوا في مواقع المسؤولية، وذلك بعدما تحولت الأحزاب إلى كيانات تعيد إنتاج ذاتها وفق منطق مغلق لا يعترف إلا بالولاء للزعيم، ولا يفتح أبوابه إلا للمقربين أو القادمين بالمظلات، إذ يكفي أن تكون «قريب هذا الوزير»أو «ابن ذلك القائد» أو «مريد ذلك المستشار»، حتى تنفتح أمامك أبواب المكاتب السياسية واللجن التنفيذية أو المناصب في المؤسسات العمومية، فتسقط على كرسي المسؤولية بمظلة الزبونية!
لا يمكن للأحزاب أن تكون وسيطا نزيها بين الدولة والمجتمع ما لم تعمل على تأطير المواطنين سياسيا وتنظيم مشاركتهم في الشأن العام، وما لم تسمح لهم بالوصول إلى أعلى المراكز للمساهمة في تقديم البرامج والرؤى والمقترحات التي تعكس تطلعات فئات المجتمع، وما لم تضطلع، أيضا، بوظيفة أساسية في ترشيح الكفاءات وتداول السلطة عبر الانتخابات، خاصة أن الأحزاب هي التي تدبر الشأن العام من موقع الأغلبية، كما تمارس دورا رقابيا على أداء الحكومة من موقع المعارضة، مما يجعلها أداة رئيسة لضمان التعددية والتوازن السياسي داخل الدولة؛ والسؤال هنا: هل يمكن أن تتحقق الممارسة الديمقراطية بأحزاب مغلقة تعيش بأكياس دم مستعملة؟ وهل يمكن أن تنجح العملية السياسية برمتها بأحزاب تفتقد إلى ماكينات التهوية؟
يُفترض في الأحزاب أن تكون مدارس للتكوين السياسي ومختبرات للديمقراطية الداخلية ومشاتل للنخبة، غير أنها تحولت إلى مراكز منغلقة على نفسها تتحكم فيها شبكات انتهازية أكثر مما تحكمها القيم والمبادئ، كما تحولت إلى وكالات خاصة مكلفة بتوزيع المواقع بدل إنتاج الأفكار، وبيع التزكيات عوض المساهمة في إنتاج البدائل.
إن الشاب المغربي الذي يختار الانخراط في حزب ما، يفعل ذلك بدافع الأمل في المساهمة والتغيير والإجابة عن انتظارات الفئة التي يمثلها، لكنه سرعان ما يصطدم بإطارات متحجرة ليس لها الاتساع اللازم لتفجير الطاقات، إذ بات كل شيء فيها محسوم سلفا، والتراتبية مغلقة، والمسارات محددة بدقة بحيث لا تسمح بالصعود إلا لمن يحسن الاصطفاف والتمسح ولعق حذاء الزعيم، أو لمن تجمعه صلة قرابة دموية أو مصلحية بالممسك بزمام الحزب. بل حتى في الأحزاب التي ترفع شعار تخليق الحياة السياسية ومصالحة الشباب مع السياسة، والمقصود هنا هو اليسار بجميع أطيافه، تعرف تناقضا صارخا بين الخطاب والممارسة، وهو ما أدى في كل المحطات التاريخية، منذ لحظة الاستقلال، إلى حدوث انشقاقات أو خروج حركات تصحيحية تطالب برأس هذا الزعيم أو ذاك. ذلك أن بعض القيادات التي تتحدث عن الديمقراطية وتنفخ أوداجها بكل ما أوتيت من قوة لـ «تشجيع» الشباب، تعيد انتخاب نفسها في كل مؤتمر، وتجد لذلك مسوغات قانونية أو «تخترعها اختراعا» لتبرير بقاءها في المنصب لولاية ثانية وثالثة ورابعة وخامسة.. إلى أن يلتحد. والدليل على ذلك أن بعضهم مستمر في منصبه لما يربو عن عقدين، يتوارث الزعامة كما تُورث الممتلكات، حتى أصبحت الولاية الثالثة والرابعة والخامسة مجرد أرقام لا تثير الدهشة، بل تدخل في دائرة التوقع والهتاف بـ «حياة الزعيم» و«رجل المرحلة» و«القيادي الاستثنائي الذي لم يجد الزمان بمثله».
لقد أُفرغت أغلب الأحزاب المغربية فكرة التداول من مضمونها، وصار الحزب أقرب إلى مقاولة خاصة، تُدار وفق منطق المصلحة والولاء والاستقراب والاحتواء و«النضالية المدفوعة الأجر»، مما يجعل الكفاءات الشابة تصطدم بعدم وجود قناة سالكة للترقي، لأنها جدارا صلبا من المحسوبية والتزكية الانتقائية يقف في طريق طموحها المشروع. بل حين تظهر كفاءات جديدة ذات حس قيادي واضح، يتم إرداؤها بنيران صديقة، بينما يتم إسقاط أسماء أخرى محمولة بالمظلات، دون أن تمر عبر المسار الطبيعي للنضال الداخلي أو التدرج التنظيمي. إنها أسماء لم يعرف أصحابها قاعات الاجتماعات، ولا مرارة النقاشات القاعدية، لكنها تتقدم مباشرة إلى الواجهة، وتُقدَّم للرأي العام بوصفها رموزا للتجديد والانفتاح، وأنها حاصلة على أعلى الشهادات من أعتى المعاهد والكليات العالمية.
إن السقوط بالمظلات داخل الأحزاب، والذي يهم الأبناء والأقارب، لا يضر فقط بالمصداقية الداخلية للأحزاب، بل يزرع في نفوس المناضلين الشباب شعورا عميقًا بالغبن والإقصاء. ذلك أنه ممنوع من تجاوز الحد الأدنى من الترقي الحزبي، وممنوع من الإمساك بالقيادة، ولا يسمح له إلا بأن يكون عاملا مساعدا للرئيس يأتمر بأمره ولا يبادر بأي شيء إلا بالرجوع إليه. فكيف، إذن، يمكن لشاب أن يؤمن بجدوى الالتزام الحزبي والانخراط في العملية السياسية لبلاده، إذا كان يدرك على وجه اليقين أن «الكفاءة» لا تكفي، وأن الطريق إلى القيادة تمر عبر استرضاء الزعيم؟
إنها مفارقة قاسية بين شاب مناضل يقضي سنوات في الهياكل القاعدية دون أن يلتفت إليه رغم كفاءته، ورغم حسه السياسي العالي، ورغم إلمامه بالوضع العام، ورغم قدرته على الاقتراح والتدافع والترافع، ووافد جديد يُمنح المنصة والصفة في «لحظة حظ»، فقط لأنه درس في «باريس» أو «واشنطن» أو لأنه ابن عائلة فلان أو فرتلان. وهو الأمر الذي ساهم في إطفاء أي حماس لدى الشباب، كما ساهم في إفراغ الفعل السياسي من روحه التربوية. ذلك أنه حين تغيب العدالة داخل الحزب، تغيب الثقة في قدرته على تحقيق العدالة داخل المجتمع. وحين تصبح الزعامة مكافأة على القرب من الزعيم لا على الكفاءة أو القدرة، يتحول الحزب إلى صورة مصغرة عن «الاستبداد» الذي كان يفترض أن ينتقد أعطابه ومآلاته وتأثيراته على الحياة السياسية.
هكذا، إذن تنكفئ الأحزاب على ذاتها، لأنها تعيد إنتاج نفس البنية السلطوية التي تدّعي مقاومتها، مما يجعل التغيير مجرد شعار الاستهلاك العمومي؛ وهي إذ تفعل ذلك، فإنها تتناسى أن الشباب الذين وُلدوا في زمن الانفتاح الرقمي، وأدركوا مبكرًا معنى الحرية والاختيار، لا يمكن أن يقبلوا بالولاءات العمياء، ولا بالوقوف في طابو الانتظار، أو لممارسة الإقامة الدائمة في جوقة المطبلين.
لقد أعاد هذا الجيل تعريف المشاركة السياسية خارج القنوات الرسمية، أي خارج الأحزاب والنقابات والجمعيات، رغم أن هذا التحول، على حيويته، لا يمكنه أن يكون بديلا عن مؤسسات الوساطة، لأن المجتمع الذي يفقد أحزابه يفقد قدرته على تأطير الصراع، وعلى تحويل الاحتجاج إلى اقتراح.
إن المسؤولية في هذه الأزمة تقع على بنية حزبية لم تستطع أن تتجدد. أحزاب ما زالت أسيرة لأسماء تجاوزها الزمن، تتعامل مع القيادات كما لو كانت رموزا مقدسة لا تُمس، ومع النقد كخيانة، ومع الطموح كتهديد.
لقد آن الأوان أن تدرك الأحزاب أن الشباب فقدوا الثقة في الزعامات القائمة، وفي أدواتها، وفي خطابها. كما أنهم باتوا يرفضون المشاركة في مسرحية تتكرر فصولها، ويبحثون عن معنى جديد للفعل السياسي يقوم على تكافؤ الفرص والشفافية. ولذلك، إذا أرادت الأحزاب أن تستعيد ثقة هؤلاء الشباب، فعليها أن تبدأ بإصلاح حياتها الداخلية، بطرد الفاسدين والمفسدين من صفوفها، وتسقيف الولايات على نحو ديمقراطي غير خاضع لحسابات الهيمنة والتحكم، والابتعاد عن طبخ الأجهزة، وإنشاء الهياكل الحزبية على مقاس الزعيم، وإعادة الاعتبار للتدرج الحزبي كقيمة أخلاقية تضمن الاستمرارية والمصداقية.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"