الخبشي: العهدة الرابعة لادريس لشكر.. اغتيال الأمل الاتحادي في مهد الديمقراطية الداخلية

الخبشي: العهدة الرابعة لادريس لشكر.. اغتيال الأمل الاتحادي في مهد الديمقراطية الداخلية عبد العزيز الخبشي
كان المؤتمر الثاني عشر لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية محطةً منتظرةً في تاريخ الحزب، لا باعتباره مؤتمراً تنظيمياً عادياً فقط، بل لأنه شكّل لحظةً مفصلية كان يُفترض أن تعيد للحزب روحه النضالية الأصيلة، وتسترجع ما تبقّى من بريقه التاريخي في المشهد السياسي المغربي. فبعد سنواتٍ من التيه التنظيمي والتراجع الجماهيري، كان الأمل معقوداً على هذا المؤتمر ليُحدث قطيعةً مع أسلوب التدبير الفردي الذي طبع المرحلة السابقة، ويفتح الباب أمام تجديد الهياكل، بدءاً من موقع الكاتب الأول، بما يعيد الثقة إلى القواعد ويمنح الحزب ديناميةً جديدة قادرةً على استقطاب مناضلين انسحبوا أو جمّدوا نشاطهم، كما كان من الممكن أن يجذب جيلاً جديداً من الشباب الذين خرجوا إلى الشارع في الأسابيع الأخيرة ضمن موجةٍ احتجاجية أعادت إلى الواجهة مطلب الكرامة والعدالة الاجتماعية.

غير أن هذا الأمل سرعان ما خبا أمام مشهدٍ عبثي يختزل كلّ ما راكمه الحزب من قيم الديمقراطية والشفافية منذ تأسيسه، فقد اختار المؤتمر أن يمدّد العهدة الرابعة للكاتب الأول إدريس لشكر دون المرور عبر المساطر الديمقراطية المنصوص عليها في النظام الأساسي، ودون احترام النصاب القانوني المطلوب لعقد الجلسة العامة التي صودق فيها على “مقرر التمديد”.

 وهكذا، بدل أن يكون المؤتمر مناسبةً لإعادة توزيع الثقة بين القيادة والقواعد، تحوّل إلى لحظةٍ من الانغلاق جسّدت بوضوح أزمة الديمقراطية الداخلية التي يعاني منها الحزب منذ سنوات.كان من المأمول أن يشهد الحزب مخاضاً حقيقياً يفضي إلى تجديد الدماء في مختلف أجهزته، وأن يتمّ التداول في البرامج والمراجعات الفكرية والسياسية، وفي علاقة الحزب بالمجتمع المغربي المتحوّل. غير أن القيادة الحالية، التي راكمت من الإخفاقات أكثر ممّا راكمت من الإنجازات، فضّلت الطريق الأسهل: التمديد دون منافسة، والمصادقة دون صناديق، والولاء بدل النقاش. وبهذا السلوك، أُجهض ما تبقّى من روح النقد والمساءلة التي كانت تميّز الاتحاد الاشتراكي تاريخياً، عندما كان مدرسةً في الديمقراطية والنزاهة الفكرية، لا نادياً مغلقاً لتوزيع المناصب والولاءات.إنّ ما حدث في المؤتمر الثاني عشر ليس مجرد خللٍ تنظيمي، بل هو انحرافٌ سياسي وأخلاقي عميق يعكس أزمة قيادة فقدت شرعيتها الأخلاقية قبل التنظيمية. 

فحين يصبح المنصب غايةً في ذاته، وتُختزل الديمقراطية في عملية تصفيقٍ جماعي تُدار خلف الكواليس، يصبح الحزب نفسه رهينةً في يد زعيمٍ واحد يقرّر مصيره دون حوارٍ أو مساءلة. لقد تمّ اغتيال روح الاتحاد في لحظةٍ كان المغاربة في أمسّ الحاجة إلى صوتٍ يساريٍّ ديمقراطي يعبر عنهم ويؤطّر غضبهم الاجتماعي والسياسي.لقد أدّى هذا الوضع إلى نزيفٍ صامت داخل التنظيم؛ فعددٌ من المناضلين التاريخيين الذين تشكّلت على أيديهم صورة الاتحاد كحزبٍ للمستضعفين وللقيم التقدمية قرّروا مغادرة الحزب أو تجميد نشاطهم احتجاجاً على الطريقة التي أُدير بها المؤتمر، معتبرين أن الاتحاد لم يعد يشبه نفسه، وأنه صار مجرّد هيكلٍ بلا روح يعيش على ذكرياتٍ مجيدة دون أن ينتج ممارسةً سياسية تليق بتاريخه. 

بل إن بعض الأصوات الشبابية التي كانت ترى في الحزب أفقاً للنضال اليساري الجديد، أُصيبت بخيبة أملٍ عميقة بعدما اكتشفت أن الخطاب الديمقراطي الذي ترفعه القيادة لا يتجاوز البلاغات الرسمية.إن المشهد الاتحادي اليوم يعكس بوضوح أزمة السياسة المغربية برمّتها، حيث تُستعمل الديمقراطية شعاراً للاستهلاك الإعلامي، بينما يُفرَغ الواقع من مضمونها عبر التلاعب بالمساطر وتهميش القواعد. فكيف يمكن لحزبٍ أسّس لتاريخ الديمقراطية في المغرب أن يختزل مؤتمره في عملية تزكيةٍ شكلية، ويتعامل مع قواعده كجمهورٍ صامتٍ لا رأي له؟ وكيف يمكن لحزبٍ يرفع شعار الدفاع عن دولة الحقّ والقانون أن يفرّط في احترام قانونه الأساسي الداخلي؟لقد كانت الفرصة سانحة أمام الحزب لاستعادة دوره التاريخي، خصوصاً بعد الحراك الشبابي الأخير الذي جسّد رفضاً واسعاً للبطالة والتفاوت الاجتماعي وتردّي الخدمات العمومية.

 وكان يمكن للاتحاد أن يكون رافعةً سياسية تعبّر عن هذه الدينامية، لو اختار طريق التجديد بدل التمديد، والمحاسبة بدل التبرير. غير أنّ القيادة الحالية فضّلت أن تُغلق الأبواب أمام هذا النفس الجديد، وأن تعيد إنتاج العجز ذاته الذي أدّى بالحزب إلى فقدان هويته الجماهيرية، وتحوله من حزبٍ اشتراكيٍّ تقدّمي إلى كيانٍ انتخابيٍّ باهتٍ يلهث خلف المقاعد.إن أزمة المؤتمر الثاني عشر تكشف عن عمق المأزق الذي يعيشه اليسار المغربي، حيث تذوب المبادئ أمام نزعة التملّك الفردي للقرار الحزبي، وحيث تتحوّل الأجهزة التنظيمية إلى واجهاتٍ شكلية تُستخدم لتبرير ما تمّ الحسم فيه مسبقاً. وهكذا يصبح الحديث عن الديمقراطية الداخلية نوعاً من الترف الخطابي، في حين يظل الواقع خاضعاً لمنطق الزعامة الأبدية.

إن الاتحاديين اليوم أمام سؤالٍ مصيري: هل سيستمرّون في الصمت أمام هذا الانحراف، أم سيعيدون بناء الحزب من جديد على أسسٍ ديمقراطيةٍ حقيقية تعيد الاعتبار للفكر الاتحادي ولتاريخ النضال اليساري في المغرب؟ فالاتحاد ليس ملكاً لأشخاصٍ مهما طال بقاؤهم في القيادة، بل هو ملكٌ لذاكرةٍ نضاليةٍ جماعية سُقيت بعرق المناضلين وتضحيات الشهداء والمعتقلين الذين حلموا بوطنٍ ديمقراطيٍّ يسوده العدل والمساواة.

لقد كان المؤتمر الثاني عشر يمكن أن يكون فرصةً لانبعاث الاتحاد الاشتراكي من رماده، لكنه تحوّل إلى لحظة انكسارٍ عميق. لقد اغتيل الأمل الاتحادي في مهد الديمقراطية الداخلية، وأُغلق الباب أمام إمكان التغيير من داخل الحزب، لتبدأ مرحلةٌ جديدة عنوانها الانكماش والعزلة. ومع ذلك، يبقى الأمل قائماً في أن ينهض الاتحاديون الأحرار من رماد هذا العبث، ليعيدوا للحزب معناه، وللنضال اليساري في المغرب مكانته.