في سياق لا تزال فيه التفاوتات الإقليمية عقبة رئيسية أمام الازدهار الجماعي، لم تعد المسألة تقتصر فقط على كيفية تطوير الأقاليم، بل على مع من وعلى أي أساس.
أكثر من أي وقت مضى، تبرز ثقافة الحوار والتوافق كرافعة استراتيجية أساسية لتحفيز تنمية إقليمية شاملة ومستدامة وذات قيادة فعالة.
في مواجهة التحديات المعاصرة (التحول المناخي، التحديات الاجتماعية، الانقسامات الجغرافية)، لم يعد الحوار خياراً بل أصبح وسيلة ومنهجاً ومبدأً في آن واحد. فهو لا يساهم فقط في تحسين فعالية السياسات العمومية، بل يهدف أيضاً إلى إعادة المصالحة بين المواطنين والشأن العام من خلال إعطائهم صوتاً ومشاركتهم في اتخاذ القرار.
لا يمكن أن تقوم التنمية فقط على سياسات عمومية من الأعلى إلى الأسفل أو قرارات تكنوقراطية بعيدة عن الواقع المحلي، بل تتطلب حوكمة منفتحة، متجسدة ومتجذرة على المستوى المحلي. وتتطلب منطق الاستماع الفعّال، مستندة إلى القناعة بأن الديناميات الإيجابية لا تُفرض من القمة، بل تُعاش وتُصمم وتُترسخ في الواقع الإقليمي.
الحوار، عندما يكون حقيقياً ومستمرّاً، لا يقتصر على تنظيم الاختلافات فقط، بل يساعد أيضاً في إدارة تضارب المصالح وبناء المشترك.
التشاور، البناء المشترك والتعاون
يمثل الحوار الإقليمي شكلاً متجدداً من الديمقراطية التشاركية، حيث لا يُنظر إلى الإقليم ككيان إداري فقط، بل كفاعل أساسي في الحوكمة العامة. يصبح الفضاء الذي تُصمم فيه السياسات العمومية وتُختبر وتُعدل لتتلاءم مع حاجيات وتطلعات السكان. وتعتمد هذه المقاربة على ثلاثة مستويات تكاملية: التشاور، البناء المشترك، والتعاون. لكن لضمان وضوح وديمومة وفعالية هذه الدينامية، يصبح من الضروري تنظيم الحوار الإقليمي ضمن فضاء مؤسسي موحد على مستوى كل إقليم.
يهدف هذا الفضاء إلى توقع وتحليل وتصميم وتنفيذ ومتابعة وتقييم مشاريع التنمية، مع ضمان مشاركة دائمة لجميع الأطراف المعنية: السلطات المحلية والممثلين المنتخبين، الإدارات المركزية المفوضة، القطاع الخاص، النسيج الجمعوي والتعاوني، الجامعات، الشباب، والصحفيين. وهكذا يُبنى إطار مستقر وشامل قادر على توحيد المصالح وتقوية ديناميات التحول على المدى الطويل.
في خطاب العرش بتاريخ 29 يوليوز 2025، أكد صاحب الجلالة الملك محمد السادس بقوة أنه لا يمكن أن يكون هناك مغرب بسرعتين، داعياً إلى تنمية عادلة ومتناسقة وشاملة. هذه الرسالة الملكية تضع المواطن في صلب معادلة التنمية وتدعو إلى حوار مباشر وعادل وبناء. هذا الحوار ليس مجرد أداة تقنية، بل هو رؤية للمجتمع، مشروع للحوكمة، وخاصة وسيلة لتحقيق عدالة إقليمية حقيقية.
ثغرات أداة أساسية
رغم أن الحوار والتوافق يعتبران رافعتين قويتين لتعزيز التنمية المستدامة المتجذرة محلياً، فإن تطبيقهما يواجه عدة صعوبات. تتطلب العمليات التشاركية وقتاً طويلاً، وموارد بشرية ومالية كبيرة، وخبرة في التحفيز الإقليمي غالباً ما تُستهان بها أو لا تُستغل بشكل كافٍ.
لا يتمتع جميع الفاعلين بنفس القدرة على التعبير أو الدفاع عن مصالحهم ضمن إطار منظم. تؤدي اختلالات السلطة، تفاوت المعلومات، وقلة خبرة بعض الأطراف إلى إضعاف شروط حوار شامل فعلاً.
علاوة على ذلك، عندما تكون التوقعات في هذه الفضاءات مفرطة، متضاربة أو غير متصلة بالقيود التشغيلية أو الميزانية، قد تؤدي النتائج إلى توافقات هشة أو حتى مضرة. والخطر هنا هو إنتاج توافق شكلي قائم على تنازلات طفيفة تُضعف الطموحات الأولية، خاصة في ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، تحت غطاء سلام محلي سطحي بين مصالح متباينة.
وفي المقابل، فإن غياب الحوار أو رفض التوافق يحمل مخاطر كبيرة أيضاً. إذ يؤدي تهميش بعض الأطراف أو فرض قرارات عمودية إلى فقدان شرعية السياسات العمومية، ما يعرض المشاريع للتعطيل أو الاحتجاجات أو حتى النزاعات المفتوحة.
عدم التشاور، بالإضافة إلى تعزيز فقدان الثقة بالمؤسسات، يمكن أن يؤدي إلى قرارات غير ملائمة للواقع المحلي، مما يضعف تجذر واستدامة الإجراءات المتخذة. تصبح المشاريع حينها غير مناسبة، يصعب تملكها، وفي النهاية غير فعالة. هذا النقص في الحوار لا يهدد فقط إمكانية تنفيذ السياسات، بل يزيد من التوترات الاجتماعية، يعزز شعور الإقصاء ويوسع الفجوات الإقليمية. رفض خلق شروط لتبادل حقيقي يعني التضحية بالموافقة الجماعية اللازمة لأي تحول ذي قيمة.
مناظرة الأفكار ومشاركة المواطن
الحوار ليس بديهياً: إنه يُتعلم ويُزرع وينتقل. من هنا تأتي ضرورة الاستثمار في تعليم مناظرة الأفكار، المشاركة المواطنية وأخلاقيات التوافق. سواء كان ممثلو المجتمع المدني أو المواطنون أنفسهم، يجب أن يتلقوا تدريباً على الممارسة الديمقراطية، احترام الآخر والذكاء الجماعي. مشاركة المعلومات، تمكين الفاعلين، وضع قواعد للنقاش الاحترامي: هذه هي أسس حوار ذي قيمة قادر على إحداث تغيير إيجابي ومستدام. فالحوار الإقليمي لا يمكن اختزاله في مجرد آلية وساطة، بل هو أداة لتعبئة الذكاء المحلي. يحمل كل إقليم في داخله حلولاً مناسبة لتحدياته. ولكن لا بد من منحه الكلمة، والفضاء، والوسائل للعمل.
ليس لمحو الخلافات، بل للاعتراف بها
الحوار لا يعني محو الخلافات، بل الاعتراف بها، تأطيرها وتحويلها إلى توافقات بناءة. يصبح الحوار بذلك عملية تنظيمية، حيث لا تُعتبر الاختلافات في التوقعات عقبات، بل فرصاً تفاوضية مشروعة حول وتيرة وأشكال وأولويات التغيير.
ما نرجوه هو بروز حوكمة تشاركية، متناسقة في شكلها - بفضاءات مخصصة، مفوضة، ومتاحة للجميع - وفي مضمونها - قائمة على حوار صادق، مستنير وموجه نحو المصلحة العامة. لكي يثمر هذا الحوار الإقليمي آثاراً ملموسة، يجب أن يُقام في جو من الثقة المتبادلة بين المؤسسات، المواطنين وجميع الأطراف المعنية. فقط حينها يمكننا جعل الأقاليم المحركات الحقيقية لتنمية وطنية عادلة.
طارق المودن/ خبير في التنمية الترابية، يهتم بقضايا التنمية المستدامة للأقاليم