تتصدر أرقام الطلاق الرسمية في المغرب عناوين الأخبار، كاشفة عن تجاوز عتبة المائة ألف حالة سنويا، ويختبئ خلف هذه الإحصائيات واقع أشد مرارة وأعمق تعقيدا، فهناك آلاف المآسي التي لا تسجلها أقلام العدول ولا تصل أصداؤها إلى قاعات المحاكم، قصص تفكك لا تدخل ضمن الإحصائيات لكنها تزرع الخراب في صمت.
داخل بيوت كثيرة تبدو من الخارج متماسكة، تجري فصول الطلاق الصامت، وهي حالة من الموت البطيء للعلاقة الزوجية حيث يتحول طرفا الزواج إلى مجرد غريبين يتقاسمان سقفا واحدا وديونا مشتركة وربما أبناء. هو زواج قائم في الأوراق الرسمية، لكنه ميت سريريا في جوهره، تحول فيه الحوار إلى صمت، والمودة إلى جفاء بارد.
تستمر هذه العلاقات كمسرحية هزلية خوفا من نظرة المجتمع، أو بسبب التكاليف الباهظة للانفصال الرسمي، أو تحت شعار التضحية من أجل الأبناء، وهو الشعار الذي يخفي في طياته جريمة نفسية مكتملة الأركان. فالأطفال الذين ينشؤون في كنف هذا الصقيع العاطفي، ويشهدون يوميا على نموذج مشوه للعلاقة بين الأبوين، يتحولون تدريجيا إلى قنابل موقوتة، يحملون في دواخلهم ندوبا غائرة تدفعهم مستقبلا إما إلى تكرار المأساة نفسها أو إلى الانحراف بحثا عن متنفس من الفراغ الذي عاشوه.
وإذا كان صمت البيوت في المدن قاتلا، فإن صدى الهجر في البوادي والقرى أشد وقعا وقسوة. فحتى أعماق المغرب المنسي لم يسلم من ظواهر التفكك الأسري، حيث يغيب الوعي القانوني وتتجذر التقاليد الشفوية، وتنتشر مأساة الطلاق غير الموثق. القصة غالبا ما تبدأ بزواج الفاتحة الذي لا يجد طريقه إلى سجلات الحالة المدنية، وتنتهي باختفاء الزوج الذي يغادر بيت الزوجية لسنوات، تاركا خلفه زوجة معلقة، لا هي بالمتزوجة التي تنعم بحقوقها، ولا بالمطلقة التي تستطيع أن تبدأ حياة جديدة. يكون الطلاق هنا قد وقع فعليا، لكنه غير موجود قانونيا. تجد هذه المرأة نفسها في فخ محكم، فلا هي تستطيع إثبات زواجها الذي لم يوثق أصلا، ولا هي قادرة على رفع دعوى تطليق للغيبة لأنها لا تملك السند القانوني الذي تبني عليه طلبها، لتصبح ضحية فراغ قانوني يتركها هي وأبناءها في مهب الريح، بلا نفقة ولا سكن ولا حتى نسب معترف به في كثير من الأحيان.
وفي جميع الحالات، سواء كان الطلاق رسميا موثقا، أو صامتا، أو غير مسجل، تقف الأم الحاضنة وحيدة في مواجهة عاصفة من التحديات. فبمجرد أن تحمل لقب مطلقة، حتى تبدأ السهام الاجتماعية في ملاحقتها، وتتحول نظرات الشفقة أحيانا إلى اتهام وشكوك. هذا الوصم الاجتماعي، الذي يتضاعف بوجود أطفال، يدفعها نحو العزلة ويخنقها نفسيا. وتتزامن هذه الحرب النفسية مع معركة اقتصادية طاحنة لتأمين أبسط متطلبات الحياة، من إيجار مسكن إلى طعام وكساء وتعليم. ورغم أن القانون يفرض على الأب التزاما بالنفقة، فإن الواقع يحكي قصة أخرى من التملص والتقاعس، مما يترك الأم وأطفالها عرضة للتشرد. وحتى عندما تحاول المرأة البحث عن عمل لتنتشل نفسها، تجد الأبواب موصدة في وجهها، فالكثير من أرباب العمل يترددون في تشغيل أم لديها مسؤوليات قد تجبرها على الغياب. وهكذا، تجد نفسها حبيسة حلقة مفرغة من الفقر والوصم، بينما تبقى حلول الدعم كصندوق التكافل العائلي مجرد مسكنات لا تعالج الجرح العميق، بمبالغ زهيدة لا تكفي لسد رمق العيش الكريم، وشروط تستثني من الأساس أكثر الفئات هشاشة، وهن أولئك الزوجات المهجورات في البوادي اللاتي لا يملكن حكما قضائيا.
إن أزمة الأسرة المغربية اليوم لم تعد مجرد أزمة أرقام، بل هي أزمة ضمير مجتمعي ونقص في الحماية الحقيقية. فالمجتمع الذي يترك أمهاته المطلقات يواجهن مصيرهن وحيدات، ويهمل أطفاله ليتربوا في بيئات سامة أو في كنف الحرمان، إنما هو مجتمع يزرع بيده بذور الفوضى والجريمة.