أريري: هل أصبحت مدينة روما عاجزة عن تحمل عبء الخلود؟!

أريري: هل أصبحت مدينة روما عاجزة عن تحمل عبء الخلود؟! عبد الرحيم أريري في موقع مختلفة من روما: ساحة نافونا و"الكوليزيوم" وزنقة متفرعة عن نهر التيبر
من الأمثال الشعبية الإيطالية المفضلة عندي، المثل القائل: "مدينة روما لم يتم بناؤها في يوم واحد"  (Rome n'a pas été construite en un jour).
 
الرسالة المستخلصة من هذا المثل الشعبي تفيد بأن صنع أي شيء جميل وثمين وبهي يتطلب الوقت والصبر والشغف. وبتعبير آخر: "بالحرص على إنجاز العمل بالدقة والإثقان نحصل على الأجمل وعلى الجودة العالية".
 
للوقوف على مضمون حكمة هذا المثل الشعبي الإيطالي، يكفي المرء أن يزور مدينة روما ليقف على صدق ووجاهة المثل. وإن كان الوقت لا يسعف الزائر لمسح شامل لكامل تراب مدينة روما الممتد على مساحة 128.700 هكتار، فيكفيه التجول و"التسكع" في المدينة القديمة Intra-muros الممتدة على مساحة 1400 هكتار، ليكتشف أن جمال "مدينة روما"، وبهاءها وقوتها وجاذبيتها وثراءها وإغراءها وجمال عمرانها، لم "يصنع" في يوم واحد، بل تم بتأن وبصبر وببعد نظر، وبفضل التراكم الذي تركته الأسر الحاكمة والملكيات والإمبراطوريات والجمهوريات التي تعاقبت على حكم روما على امتداد 2778 سنة، بالنظر إلى أن ميلاد مدينة روما تم  على يد رومولوس Romulus في سنة  753 قبل الميلاد.
 
من تجليات هذا البهاء وهذه الجاذبية، أن روما لا تتميز فقط بخاصية لا توجد في أي عاصمة في العالم، ألا وهي أنها العاصمة الوحيدة في الكون التي تحتضن داخل ترابها "دولة أجنبية"، بحكم أن روما هي المدينة الوحيدة في الأمم المتحدة التي تعد عاصمة دولتين: فهي عاصمة دولة إيطاليا برايتها وجيشها وجواز سفرها ودار لسك عملتها، وفي الوقت نفسه هي عاصمة دولة الفاتيكان (أصغر دولة في العالم) التي تملك أيضا رايتها وجيشها وجواز سفرها وتملك دارا لطبع عملة اليورو الخاصة بها. بل تتميز مدينة روما بكونها المدينة الأولى في العالم التي تتوفر على أكثر المواقع الأثرية المصنفة تراثا للإنسانية.
 
فمن أصل كل 100 موقع أثري في العالم مصنف باليونيسكو كثراث للإنسانية، يوجد 6،2% منه في مدينة روما، وتحديدا في الأحياء العتيقة داخل السور. إذ تعد إيطاليا أول دولة على رأس بلدان العالم من حيث ثراء المواقع التاريخية والأثرية المصنفة تراثا للبشرية بقائمة اليونيسكو (طبعا نقصد المواقع التاريخية من قصور وأسوار ومدافن ومسارح وأبراج ونافورات وقلاع...، وعددها 972 موقعا أثريا في العالم، وليس المحميات والغابات والجبال أو المواقع المختلطة، وعددها مجتمعة 276 موقعا بيئيا ومختلطا بالعالم). 

وهذا ما يفسر تسونامي الذي تعرفه روما في المجال السياحي، لدرجة أن إحصاء 2024 كشف عن رقم قياسي تمثل في توافد 22 مليون سائح على العاصمة الإيطالية، علما أن سكان مدينة روما لا يتجاوز 2.700.000 نسمة. أي أن المدينة استوعبت سياحا يفوق عددهم سكانها بمعدل ثماني مرات. بمعنى أنه من أصل 8 مواطنين يمشون في شوارع روما هناك 7 سياح، فيما لا يوجد سوى مواطن محلي واحد ينتمي إلى روما! مع ما يطرحه هذا التحدي من رهانات توفير البنية التحتية الضرورية، من مطار فعال ونقل حضري جيد وفنادق متنوعة ومآوي ومطاعم وملاه ومنتزهات وأمن وشبكة اتصالات قوية، فضلا عن توفير كل المؤن والسلع والمشروبات لتلبية حاجيات 22 مليون سائح (للإشارة، استقبلت إيطاليا 57 مليون سائح خلال نفس السنة، حسب المنظمة العالمية للسياحةOMT).

لكن وعلى إيقاع المثل المغربي"حتى زين ماخطاتو لولا"، فإن هذا الكنز الذي تتوفر عليه روما، بقدر ما جذب اليها أنظار العالم، جعلها اليوم في مرمى نيران القصف من أوساط ثقافية وسياسية وأركيولوجية وجامعية وجمعوية، من داخل ومن خارج إيطاليا، بسبب ما سجل من مؤاخذات على حكومة روما وعلى بلدية روما من تقاعس في صيانة هذا الثراث الإنساني وحمايته من التآكل والتلف.
 
فإذا كانت إيطاليا على رأس الأمم الحاضنة للمواقع الأثرية، فهي توجد أيضا على رأس الدول الأوربية التي تتعامل مع صيانة وحماية الموروث المادي واللامادي بتقتير وتقشف. فقطاع الثقافة في إيطاليا هو الطفل اليتيم في السياسة العمومية، إذ لا ترصد الحكومة سوى 0،2% من ميزانية الثقافة لصيانة المآثر (المعدل في أوربا في الصيانة هو 1% من ميزانية الثقافة)، كما أن بلدية روما، الطرف المعني مباشرة بالملف، لا ترصد سوى 2،4% من ميزانية المدينة لهذا الجانب.

وأمام كثرة المواقع التي تحتاج للترميم والصيانة وبسبب الأزمة، استنجدت الحكومة الإيطالية وبلدية روما بالباطرونا وأبرمت اتفاقيات الرعاية Le Mécinat مع شركات عملاقة لتتكفل كل شركة بموقع أثري لترميمه مقابل أن توظف علامتها التجارية بالموقع واستغلاله في عروض أزياء أو سهرات وما شاكل ذاك. لكن انتفاضة المثقفين والأركيولوجيين والمهتمين أوقفت "البيضة في الطاس" وتوقفت معها معظم عمليات الرعاية Mécinat، لتعود المدينة إلى نقطة الصفر والبحث عن بدائل وطرق أخرى لتوفير مئات الملايين من الدولارات لإنفاقها على هذا الموقع الأثري أو ذاك خوفا من خفوت جذوة جاذبية روما.
 
وإذا فشلت السلطات الإيطالية في إبداع الحلول، سيكون ذلك مقدمة لدفن المثل الشعبي القائل: "كل الطرق تؤدي إلى روما". إذ ما الذي سيغري سياح العالم غدا للسير في الطريق نحو روما إذا زال بريق مآثرها وقلاعها وأسوارها ومسارحها وكنائسها وبناياتها التاريخية؟!
 
لكن حدسي يخبرني بأن مدينة روما، التي صمدت طوال 28 قرنا تقريبا في وجه الحروب والغزوات والاغتيالات والانقلابات والأوبئة والغارات والدسائس والفاشية، قادرة على الصمود ضد أزمة التمويل لصيانة موروثها الذي يعد كذلك موروثا البشرية.
 
ألم يكن الرومان مهددين بالاجتثاث لو لم ينقذهم "رومينيا"، إله الرضاعة، من الزوال، بشكل جعل روما مدينة أبدية؟!