بعد أن استنفد مخزون ثورة الفاتح من نونبر 1954، وإشعاعها داخليا وخارجيا، وتأكد من أن الاستناد عليها لم يعد يمنحه شرعية الاستمرار في السلطة، والبقاء جاثما على صدور الشعب الجزائري تفتق ذهن النظام الحاكم في الجزائر عن ترويج فكرة أنه يمثل قوة إقليمية ضاربة ليلعب على وتر "النيف" الذي يتباهى به بعض المواطنين الجزائريين بسذاجة، وأحيانا ببلادة منقطعة النظير.
ولإدراكه بأن المعطيات الجيوسترتيجية في المنطقة، وأن تطور الدولة الجزائرية نفسها منذ أن رأت النور لأول مرة سنة 1962 يفندان ادعاءه هذا، فإن النظام الجزائري لا يجرؤ على الإتيان ولو بدليل واحد على ما يتوفر عليه من قوة ضاربة، وعلى فعاليتها إن وجدت مكتفيا بالاختباء وراء شعارات فضفاضة لدغدغة مشاعر مواطنيه البسطاء.
لهذا يغدو من الواجب مساعدة هذا النظام في إيجاد دلائل على قوته الضاربة سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي، ومحاولة تنوير الرأي العام الداخلي بها، خاصة وأن بعضها صارخ واكتوى بنيرانها ملايين الجزائريين، وما زال العديد منهم يتجرع مرارتها في صمت وخوف.
لقد تجلت هذه القوة خارجيا لأول مرة في التهديد باجتياح الجارة تونس سنة 1974 إثر إعلان قبولها الدخول في وحدة اندماجية مع ليبيا، فأجهض النظام الجزائري بذلك أول محاولة وحدة في الفضاء المغاربي، مفضلا استمرار التشرذم في المنطقة لأنه يتوهم بأن هذا التشظي يخدم سياسات الهيمنة التي يتوق دوما إلى ممارستها على جيرانه ؛ وهي السياسة التي لا يتردد في استخدام كل الوسائل لمواصلة ممارستها في عموم محيطه متى ما وجد الفرصة سانحة لذلك، بما في ذلك الدسائس المخابراتية القذرة.
في هذا السياق ينبغي التذكير أيضا بما حدث في يناير 1980 ضد تونس مرة أخرى فيما يسمى بأحداث قفصة عندما سهل النظام الجزائري بتواطؤ مع نظام العقيد القذافي دخول مجوعة تونسية معارضة ومسلحة عبر مدينة تبسة الجزائرية للقيام بأعمال إرهابية تخريبية في مدينة قفصة باعتبارها رئة تونس الاقتصادية لوجود مناجم الفوسفاط فيها وفي نواحيها.
غير أن هذه القوة التي يتوهم أصحابها أنها ضاربة ستتلقى الضربة الحقيقية الموجعة والمهينة في آن واحد حين تجرأت على الوحدة الترابية للمغرب سنة 1976 ليس فقط بمساندة مرتزقة البوليزاريو، وإنما بإرسال قواتها للتمركز في منطقة أمغالا بغية تحويلها قاعدة خلفية لوجيستية لتقديم الدعم لانفصاليي جمهورية مخيمات تندوف. ولاشك بأن ندوب هذه الضربة ما تزال على أجساد بعض الجنود الجزائريين الذين سقطوا أسرى لدى القوات المسلحة الملكية، وما زالوا على قيد الحياة، ويتبوأ بعضهم مناصب حساسة في البلاد.
وغني عن الذكر في هذا الإطار أن تلك الضربة التي تلقاها الغزاة الجزائريون آنذاك كانت ستكون قاصمة لنظام الرئيس هواري بومدين لولا تدخلات الأشقاء في المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية، والتجاوب الإيجابي لجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله مع مساعيهم الحميدة بإطلاق مئات الأسرى الذين أسرهم الجيش المغربي، ومنهم قياديون حاليا في الجيش الجزائري.
وخلافا للدلائل المذكورة أعلاه التي تكشف زيف ادعاء القوة الضاربة على الصعيد الإقليمي الذي تزكيه في الوقت الراهن أجواء العزلة التي تعيشها الجزائر من جراء تعدد صراعاتها مع جيرانها المباشرين في الجنوب والغرب وفي الشرق باستثناء الحدود مع تونس التي ارتضى النظام الحاكم فيها الارتماء في أحضان قصر المرادية ؛ فإن ضراوة القوة الضاربة التي يدعي النظام الجزائري أنه يمثلها اكتوى بها الشعب في الجزائر وحده.
إن البداية الفاضحة لتجسيد هذه القوة الضاربة واستعراضها على الشعب الجزائري المغلوب على أمره كانت في منطقة القبائل سنة 1980 فيما يسمى بالربيع الأمازيغي الذي لم يكن المنادون به يطلبون غير الاعتراف بهم كمكون من مكونات الأمة الجزائرية، وإيلاء العناية لمناطقهم المهمشة تنمويا وسياسيا، فضلا عن الاعتراف بهويتهم ولغتهم وترسيمها لغة رسمية في البلاد. وكما هو معلوم، فإن ذلك الربيع الثقافي والحضاري قوبل بقمع وحشي ودموي تجاوز عدد ضحاياه 150 قتيلا، وأزيد من خمسة آلاف جريح، ناهيك عن أعداد هائلة من الموقوفين.
ولم تكن أحدث منطقة القبائل، التي يرفض النظام الجزائري لحد الآن تمتيعها بحق تقرير مصيرها ولو في إطار حكم ذاتي يراعي خصوصيتها، هي الأحداث الوحيدة في الجزائر، إذ بعد ثمان سنوات منها ستندلع في أكتوبر 1988 انتفاضة شعبية واسعة عمت كافة أرجاء البلاد قابلها النظام العسكري كالعادة بأعمال قمعية وحشية ذهب ضحيتها أزيد من 500 قتيل، وآلاف الجرحى والموقوفين، وذلك بعد إعلان حالة الطوارئ لإعطاء الضوء الأخضر للقوات المسلحة للتدخل باستخدام الذخيرة الحية.
ورغم أن النظام الجزائري حاول بعد ذلك امتصاص النقمة الشعبية ومراوغة الضغوط الدولية بفتح الحياة السياسية والسماح بالتعددية السياسية والإعلامية إلا أنه سرعان ما ارتد عن ذلك المسار من خلال مجموعة من الإجراءات التي كشفت طبيعته العسكرية الدكتاتورية، وهي إجراءات يمكن تلخيص أهمها فيما يلي:
1/ إلغاء نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية التي جرت في 26 ديسمبر 1991، التي اكتسحتها جبهة الإنقاذ الإسلامية FIS بالحصول على 188 مقعدا من أصل 231 تم الحسم فيها في تلك الجولة، علما بأن كافة التوقعات كانت تشير إلى اكتساح آخر لجبهة الإنقاذ في الجولة الثانية التي كان مقررا إجراؤها في 16 يناير 1992.
2/ حل جبهة الإنقاذ الإسلامية، التي سبق وأن فازت أيضا بالانتخابات البلدية والولائية التي جرت في 12 يونيو 1990 بالحصول على 55% من أصوات الناخبين عبر تراب الجمهورية، والوصول إلى الحصول على أغلبية المجالس البلدية لكبريات المدن كالعاصمة ووهران وقسنطينة، بل تم اعتبارها تنظيما إرهابيا، وذلك بعد إعلان حالة الطوارئ وإرغام رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد على الاستقالة في 11 يناير 1992، وتشكيل مجلس أعلى للدولة لإدارة المرحلة الانتقالية.
وبطبيعة الحال، فإن هذه الردة التي حاولت الطغمة العسكرية التي استحوذت على السلطة صراحة في البلاد طمسها من خلال الإتيان بأحد رموز الثورة لترؤس البلاد في شخص الرئيس محمد بوضياف ستتواصل مجسدة في اغتيال هذا الأخير، وفي إدخال المجتمع الجزائري في حرب أهلية دامت حوالي عشر سنوات أسفرت عن أزيد من 150 ألف ضحية تمثل النساء 30% من بينهم، فيما يزال لحد الآن مجهول مصير عشرات الآلاف.
إن آلة القمع نفسها التي لا يعرف النظام العسكري الجزائري غيرها هي التي سيلجأ إليها مرة أخرى بعد اندلاع حراك 22 فبراير 2019، الذي انطلق من مجرد المطالبة برفض عهدة خامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة ليصل إلى التركيز على ضرورة إحداث تغيير جذري للنظام السياسي يعود معه قادة الجيش إلى الثكنات.
وكما هو معلوم فإن ذلك الحراك أسفر عن عديد من الضحايا بين قتيل ومعتقل ولاجئ خارج البلاد، ولم يهدأ إلا بسبب جائحة كورونا التي اجتاحت العالم كله، وليس نتيجة الحلول الترقيعية التي أقدم عليها النظام بتغيير الوجوه مع الإبقاء على نفس قواعد اللعبة وممارساتها. وبذلك فقد أثبت النظام الجزائري أنه قوة ضاربة على قاعدة المثل الشعبي الذي يقول: "الناس تغلبني وأنا نغلب عيشة أختي".