تعيش فرنسا أزمة سياسية غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية، إذ تُستقيل حكومة لأول مرة بعد 14 ساعة فقط من تعيينها، وهي أقصر مدة حكم في تاريخ الجمهورية، وذلك بسبب الخلافات الحادة بين مكوناتها، وسعي كل طرف إلى فرض شروطه على الطرف الآخر.
ويحدث ذلك على وقع الضغوط الاجتماعية والاحتجاجات التي تنظمها النقابات، إلى جانب تراجع أداء الاقتصاد الفرنسي.
الخلافات التي أدت إلى سقوط الحكومة بهذه السرعة القياسية تعود أساسًا إلى غياب "القطيعة الموعودة" التي وعد بها الوزير الأول، كما صرّح برونو روتايو، زعيم حزب الجمهوريين، الذي أبدى تحفظه على تعيين وزير الجيوش برونو لو مير. وقد عبّر الوزير الأول المستقيل عن أسفه لعدم توفر شروط استمرار الحكومة، متهِمًا بعض الأطراف بتغليب المصلحة الحزبية على مصلحة فرنسا.
وقال في تصريح له: "حاولت أن أبني جسور الحوار مع الشركاء والنقابات للخروج من حالة الانسداد، لكن الأحزاب السياسية لم تقدم أي تنازلات، وكانت تسعى لفرض شروطها بالكامل".
بعد هذه الاستقالة، بدأ المراقبون يتساءلون عن السيناريوهات الممكنة أمام الرئيس إيمانويل ماكرون للخروج من هذا المأزق السياسي الذي وجد نفسه فيه. وقد طلب الرئيس من الوزير الأول المستقيل، سيباستيان لوكورنو، إجراء "مفاوضات أخيرة حتى مساء الأربعاء" مع الأحزاب السياسية، في محاولة لإيجاد مخرج للأزمة. وتُعد هذه المفاوضات بمثابة "الفرصة الأخيرة" لإنقاذ المشهد السياسي، وذلك بعد ساعات قليلة من إعلان لوكورنو استقالته، غداة الكشف عن تشكيلته الحكومية.
يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من خلال إعادة تكليف سيباستيان لوكورنو برئاسة الحكومة، إلى إخراج البلاد من أزمة سياسية مستفحلة منذ أن قرر العام الماضي حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة. غير أن هذه الخطوة زادت من تعقيد المشهد السياسي، بعد أن أفرزت الانتخابات ثلاث كتل متنافسة ومتقاربة الحجم.
ومنذ إعادة انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون في عهدته الثانية، لم يمنحه الفرنسيون الأغلبية في البرلمان، ورفض تقاسم السلطة مع باقي الكتل السياسية، ما يُفسر الهشاشة السياسية وتعدد الحكومات المعيّنة. يُعد سيباستيان لوكورنو سابع رئيس وزراء في عهد ماكرون، والثالث منذ حلّ البرلمان العام الماضي.
وحتى في حالة نجاحه في تشكيل حكومة جديدة، يواجه خطر إسقاطه من طرف المعارضة في برلمان منقسم بشدة، رغم جهوده لكسب دعم بعض الأحزاب من أجل تمرير ميزانية تتسم بالتقشف، نتيجة ارتفاع الدين العام الفرنسي.
وتجري المشاورات الأخيرة في ظل انتقادات حادة لماكرون وتحميله مسؤولية ما يجري. وتطالب حركة "فرنسا الأبية" بإزاحته من الحكم، كما يطالب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف بانتخابات مبكرة. بل حتى بعض حلفائه، مثل إدوار فيليب، رئيس الوزراء السابق، طالب باستقالته. وأكثر من ذلك، صرّح غابرييل أتال، زعيم حزب النهضة (حزب الرئيس)، بأنه لم يعد يفهم ما يريده الرئيس.
ويُعتبر هذا التكليف الجديد بمثابة الورقة الأخيرة التي يسعى من خلالها ماكرون إلى وضع حلفائه ومعارضيه أمام مسؤولياتهم، قبل اللجوء مجددًا إلى حلّ البرلمان، وهو سيناريو قد يصبّ في مصلحة اليمين المتطرف، كما تشير مختلف استطلاعات الرأي.
ويبقى السؤال المطروح اليوم: هل سينجح لوكورنو في مهمته الجديدة؟ وهل ستتنازل الأحزاب عن شروطها، أم أن اقتراب موعد الانتخابات سيدفع كل طرف إلى التمسك بمواقفه؟
خاصة أن فرنسا بحاجة ماسّة إلى إقرار ميزانية جديدة، بعد أن أسقط البرلمان ثلاث حكومات متتالية منذ حله في يونيو الماضي.