عبد العزيز كوكاس: نزار بركة في "نكونو واضحين".. حين يستعيد الخطاب السياسي عقلانيته

عبد العزيز كوكاس: نزار بركة في "نكونو واضحين".. حين يستعيد الخطاب السياسي عقلانيته عبد العزيز كوكاس
في زمن تتراجع فيه الثقة في السياسة ويرتفع صوت الشارع غضبا، جاءت حلقة "نكونو واضحين" التي بثتها القناة الثانية مؤخرا لتعيد النقاش إلى سكّته الأصلية: مواجهة القضايا بوضوح والإصغاء إلى هموم الشباب دون أقنعة. ولا يمكن لي إلا أن أحيّي هذا التحول اللبيب في تعاطي الإعلام السمعي البصري مع احتجاجات حركة الشباب.
ورغم ما أثارته الحلقة التي استضافت نزار بركة الأمين العام لحزب الاستقلال من انتقادات بسبب الخلط المفترض بين الصفة الحكومية والصفة الحزبية، فإن المضمون العملي للنقاش كان أبعد من هذا الجدل الشكلي، وأقرب إلى ما ينتظره المغاربة فعلا: خطاب عقلاني، مسؤول، ومتوازن. 
سهل أن نحمل معاول الهدم ونسوّي كل شيء مع الأرض، ففي اللحظات الصاخبة دوما تكون أكبر ضحية هي الحقيقة، ويصبح "النقد" و"النقض" ملتبسان حد التماهي، لنحذر، إن بلدنا اليوم يحتاج إلى الكثير من الذكاء لإدارة أزمته بالبحث عن كل نقط الضوء أنّى كانت، في احتجاج مدني مبهر، في وضوح لغة سياسي، في نقاش إعلامي حيوي، فالمجتمع الحي هو سلسلة أزمات مفتوحة، فقط حذار من إدخال كل شيء في العتمة.
في تقديري، لم يكن مرور نزار بركة في الحلقة مجرد مشاركة إعلامية، بل كان امتحانًا سياسيًا وشخصيًا لرجل دولة يعي ثقل الكلمة أمام جمهور فقد الثقة في الوعود. ففي زمن الخطابات الدفاعية والمناورات اللغوية، اختار بركة لغة بسيطة، لكنها دقيقة، تخاطب الشباب كعقول راشدة لا كجمهور انتخابي. تحدث بلغة الأرقام حين وجب التوضيح، وبنبرة الاعتراف حين اقتضت الشفافية، فاستعاد ما افتقده الفضاء السياسي منذ زمن :الوضوح الأخلاقي قبل البلاغة السياسية.
من اللحظات اللافتة في الحلقة، إصرار نزار بركة على الحديث عن المحاسبة في قطاع التجهيز والماء، لا من موقع الدفاع عن النفس بل من موقع من يعتبر الخطأ جزءاً من مسؤولية ينبغي الاعتراف بها. لقد وجّه رسالة صريحة: أن الفاعل العمومي ليس معصوماً، وأن الإصلاح لا يتم بالخطابات بل بالجرأة على الاعتراف. هذا التحول من خطاب التبرير إلى خطاب المحاسبة هو ما يعطي قيمة لمداخلته، ويجعلها مختلفة عن الخطابات التي اعتادها المغاربة من وزراء وسياسيين سابقين.
نجاح بركة في هذه الحلقة لا يُقاس بما قاله فقط، بل بكيفية استماعه.فقد أبان عن استعداد حقيقي للتفاعل مع انتقادات الشباب، بل وأعطى الانطباع بأنه يعتبر هذا الجيل شريكاً في صياغة السياسات لا مجرد متلقٍ لها.
إن هذا التحول في تمثل العلاقة بين الدولة والشباب، بين القرار والمجتمع، هو ما يحتاجه النقاش العمومي اليوم أكثر من أي وقت مضى. فبدل الخطاب الأبوي أو الوعود الشعبوية، قدّم بركة تصوراً واقعياً متدرجاً لمشاكل التشغيل والماء والبنية التحتية، دون أن يسقط في فخ الوعود المطلقة.
لقد بالغ البعض في انتقاد البرنامج بذريعة أن الوزير لا يمكن أن يكون في مواجهة شباب بصفته الحكومية، متناسين أن هذا الشكل من المواجهة هو ما تطالب به الديمقراطية الحديثة: مسؤول عمومي يخرج من المكاتب المكيّفة إلى فضاء النقاش العمومي المفتوح.
وإذا كانت الصفة الرسمية تثير حرجاً بروتوكولياً لدى البعض، فإن ما يهم فعلاً هو جوهر الفعل الديمقراطي: أن نرى فاعلا سياسيا يناقَش، ويُسائل، ويرد أمام جمهور من الشباب بلا حواجز ولا وسطاء. تلك سابقة ينبغي تشجيعها لا تقزيمها في نقاش الصيغ والمظاهر.
ما ميّز نزار بركة في هذه الحلقة هو أنه استعاد نغمة السياسة الهادئة، البعيدة عن صخب الخطاب الانتخابي. تحدث عن الواقع بما فيه من اختلالات، لكنه لم يسقط في جلد الذات. أشار إلى ما تحقق دون أن يدّعي الكمال. وفي زمن الاستقطاب والضجيج الرقمي، بدا خطابه كمساحة نادرة من الاعتدال المعرفي والأخلاقي، حيث لا يُختزل الوطن في شعارات ولا تُختزل المسؤولية في تبريرات.
لم يكن مرور نزار بركة في "نكونو واضحين" مجرد لحظة تلفزيونية عابرة، بل إشارة إلى إمكانية عودة السياسة إلى معناها النبيل :الإصغاء، المساءلة، الجرأة على الاعتراف والتمسك بعقلانية الخطاب وسط الضجيج.
إن الدفاع عن مثل هذه اللحظات ليس دفاعاً عن شخص، بل عن أسلوب في ممارسة السياسة، يقوم على الوضوح والمسؤولية، ويعيد الثقة في إمكانية حوار حقيقي بين الشباب والدولة.