نادية واكرار: المغرب بين الاستفزاز السياسي وتحديد مصير دولة في قلب ثورة الوعي

نادية واكرار: المغرب بين الاستفزاز السياسي وتحديد مصير دولة في قلب ثورة الوعي نادية واكرار
لم يعد المشهد السياسي المغربي مجرد حركة متقطعة في فضاء القرار، ولا مجرد تناوب على السلطة بين وجوه تتغير وأدوار تتكرر، بل أصبح حالة فكرية مركبة تتجاوز السياسة إلى الفلسفة، وإلى سؤال الوجود نفسه: من نحن؟ 
 
إلى أين تمضي الدولة المغربية وسط هذا الزخم من التحولات الإقليمية والدولية؟ وهل ما نعيشه اليوم مجرد استفزاز سياسي عابر أم بداية لإعادة تشكيل الوعي الوطني وبناء دولة جديدة في عمق الثورة الصامتة؟
 
الاستفزاز السياسي الذي يعيشه المغرب لا يتجلى فقط في الخطابات المتضاربة ولا في القرارات الملتبسة، بل في الشعور الجماعي بأن المسافة اتسعت بين الدولة والمواطن، بين الخطاب الرسمي والواقع المعيش. حين يشعر الإنسان أن صوته لا يسمع، وأن الكفاءة تقصى لصالح الولاء، وأن المال والسلطة التقيا في مربع المصالح، يتحول المشهد إلى استفزاز للعقل الجمعي ويبدأ الوعي في الانسحاب من لعبة السياسة إلى مساحة التساؤل.
 
في تلك اللحظة، يتحول الصمت من علامة خوف إلى علامة إدراك، ويتحول الولاء من انتماء أعمى إلى بحث عن معنى الوطن في ظل دولة تبدو كأنها فقدت بوصلتها الأخلاقية.
 
السياسة حين تفرغ من بعدها الأخلاقي تفقد مبرر وجودها. فالشرعية لا تستمد فقط من الصناديق ولا من القوانين، بل من الإحساس بالعدالة والكرامة. والسلطة التي تفقد مرجعيتها الأخلاقية تتحول تدريجيا إلى شكل بلا روح، إلى مؤسسة تثير السخط أكثر مما تثير الاحترام.
 
 في هذا السياق، تبدو الدولة المغربية أمام مفترق طريق: إما أن تعود إلى روحها المؤسسة القائمة على الثقة المتبادلة والمسؤولية المشتركة، أو ان تستمر في إنتاج نفس البنية القديمة التي تدير الأزمات أكثر مما تعالجها.
 
لكن ما يجب الانتباه له هو ان خلف هذا المشهد المنطقي تنمو ثورة حقيقية ببطء وهدوء. إنها ثورة الوعي، الثورة التي لا ترى ولا تسمع لكنها تتشكل في العمق: في الجامعات، في النقاشات الرقمية، في لغة الجيل الجديد الذي لم يعد يؤمن بالخطاب الجاهز، ولم يعد يبحث عن الزعيم بل عن المعنى.  الجيل زيد، جيل يقرأ العالم بلغته الخاصة ويقيس السياسة بمقياس الصدق لا بمقياس الشعارات.... جيل لا يقاد، بل يسائل... وهي الثورة الأخطر، لأنها لا تواجه بالقمع ولا تكسر بالمنع، بل تحتاج إلى إصغاء صادق وفهم عميق.
 
المغرب اليوم لا يعيش ثورة الشوارع، بل ثورة الأفكار. ثورة لا ترفع الشعارات بل تزرع الأسئلة. إنها لحظة وعي جماعي يطالب بإعادة تعريف الدولة، لا بهدمها....بإصلاح العلاقة بين السلطة والمجتمع، لا بقطعها... بتأسيس شرعية جديدة تقوم على الكفاءة والكرامة، لا على الولاء والزبونية. ففي عمق هذا الحراك الصامت تكمن فرصة نادرة لإعادة التوازن بين الدولة ومواطنيها، بين السلطة والمعنى، بين الخطاب والفعل.
 
مصير الدولة المغربية اليوم مرهون بقدرتها على التجدد الذاتي، على الانتقال من منطق الاستقرار السلبي إلى منطق الإصلاح الحقيقي، من عقلية التبرير إلى ثقافة المحاسبة. فالدولة التي لا تصغي إلى وعي مواطنيها تفقد تدريجيا قدرتها على البقاء، لأن الشعوب التي تدرك ذاتها لا تقبل أن تقاد إلى الخلف. 
 
المغرب، بعمقه التاريخي وحكمته الحضارية، لا يمكن أن يختزل في نظام أو حكومة أو وجه سياسي. لانه مشروع مجتمع جد معقد ومتاصل يسعى لاستعادة معناه في زمن يضيع فيه المعنى...
 
الاستفزاز السياسي الذي نراه اليوم ليس خطرا بقدر ما هو علامة حياة، إشارة إلى أن المجتمع بدأ يستيقظ من سباته الطويل، وأن الدولة مطالبة بأن تتغير قبل أن يفرض التغيير نفسه عليها. فالتاريخ لا يرحم من يرفض الإصغاء لنبض شعبه، والوعي لا يعود إلى الوراء حين يولد.
 
إن المغرب يقف اليوم في قلب الثورة، لا ثورة السلاح ولا الشارع.... بل ثورة الوعي والإدراك... ثورة تفتح الباب أمام سؤال جديد: أي دولة نريد أن نكون؟ دولة الشكل أم دولة الجوهر؟ دولة السلطة أم دولة الإنسان؟ فحين يجاب عن هذا السؤال بصدق، فقط آنذاك يمكن أن يبدأ المغرب مرحلة جديدة من تاريخه، مرحلة لا تقاس بالأسماء ولا بالخطابات، بل بمقدار ما استعاد الوطن معناه في قلوب أبنائه.