يعيش المغرب على إيقاع خريف غضب لم يكن في حسبان الطبقة السياسية عِلماً أن المسيرات والاحتجاجات الاجتماعية التي سبقتها كانت تُنبِئ بكون اهتمامات وأجندة المواطن العادي المُكْتوي بنار الأسعار عموماً بما فيها متطلبات الدخول المدرسي، وتَردِّي الخدمات الصحية، بعيدة كل البعد عن أجندة الطبقة السياسية التي كانت تتمحور حول مناقشة القوانين الانتخابية والتقطيع الانتخابي.
معطيات محسوسة
لا حاجة للتذكير بكون الشروط الاجتماعية التي من شأنها دفع فئات من المواطنين أو جهات منظمة بقانون مثل النقابات إلى الاحتجاج أمر طبيعي وليس بجديد، ولا أدل على ذلك من كون عشرات الإضرابات المطلبية القطاعية، والوقفات الاحتجاجية التي تعرفها مختلف مناطق البلاد يوميا أضحت أمراً معتاداً، وتكون في معظم الأحيان مدخلاً للحوار مع الجهات المعنية.
من جهة ثانية، أكدت تلك الاحتجاجات ما عايشناه منذ تظاهرات الحسيمة سنة 2016، من حيث انحسار إشعاع وقدرة المؤسسات المؤهلة نظريا لقيادة النضالات الاجتماعية والقيام بأدوار الوساطة (أحزاب، نقابات...الخ) على التأثير حتى لا نقول انعدامها، نتيجة ترهلها وتفشي روح البيروقراطية والزبونية داخلها، ولسياسة التدجين والاحتواء التي انتهجتها الدولة إزاءها منذ عقود بغية الحد من استقلاليتها وتأثيرها على الشارع. وكنتيجة طبيعية لذلك إلى برزت أشكال تنظيمية جديدة لتأطير الاحتجاجات والتعبيرعنها مثل ظاهرة التنسيقيات خلال إضرابات رجال ونساء التعليم في الموسم الدراسي 2022- 2023، ثم أخيرا المنصات الرقمية التي أضحت فضاءً جديدا لاحتضان النقاشات المتعلقة بالملفات المطلبية والصيغ التنظيمية للنزول إلى الشارع.
بارتباط وثيق مع ما أشرنا إليه أعلاه، فإن التحولات الديمغرافية التي يعرفها المغرب منذ عقود، كان من شأنها فرز بنية سكانية يمثل داخلها الشبان الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة نسبة 43 بالمائة، لكن المؤلم والخطير في الأمر يتمثل في كون مليون ونصف من هاته الفئة العمرية (ما بين 14 سنة و24سنة) انقطعوا عن الدراسة ولا يتوفرون على تكوينات تساعدهم وتؤهلهم لولوج سوق الشغل، ناهيك عن الظروف الاجتماعية التي يحيون فيها، الأمر الذي يجعلهم مرتعاً خصباً لمختلف الانحرافات الممكنة من تعاطي المخدرات والانزلاق نحو الفوضى والعنف كما تشهد على ذلك مظاهر العنف والتخريب، التي تلي مجموعة من مقابلات كرة القدم.
افتراضات
في مواجهة واقع اجتماعي معقد، وحراك شبابي "مؤطر" في عالم افتراضي وخارج مقرات الأحزاب والنقابات والجمعيات، يصبح من الطبيعي أن تختلف القراءات والتحليلات لهاته الظاهرة، بحيث يجد البعض ضالته في نظريات المؤامرة، وتحديدا في تجربة " الربيع العربي" التي لا زالت مجموعة من الشعوب العربية في سوريا وليبيا واليمن...الخ تعاني من نتائجه الكارثية.
ضمن هذا السياق تزدهر وتتنوع بشأن الجهات والأجندات التي تثوي خلف الوقوف خلف تلك الدعوات: صراعات داخل أطراف من السلطة بغية التموقع الآني والمستقبلي، سعي قوى سياسية داخلية لتحسين موقعها التفاوضي ضمن الخريطة السياسية المغربية وترفع شعارا لا يخلو من جاذبية سياسية وشعبية: "إسقاط حكومة أخنوش"، وجود جهات أجنبية لها أجندتها السياسية والاقتصادية الخاصة بها تستغل الإخفاقات الحكومية في المجال الاجتماعي بغية إشعال الحرائق.
نظريا تبقى كل تلك السيناريوهات واردة، بيد أنه يستحيل في غياب معطيات وأدلة دامغة الدفاع عن إحدى تلك الفرضيات خاصة وأن الأحداث لا تزال في بدايتها، ولم تبح بكل خفاياها. بالمقابل تعلمنا دروس التاريخ بأن التحولات والانعطافات الحاسمة في مسار الشعوب تصنعها العوامل الداخلية ومدى نضجها لتقبل التغيرات الكبرى، أما العوامل الخارجية، رغم أهميتها وتأثيرها، فتظل دوما عنصرا مساعدا، ولا أدل على هذا الطرح مما عاشه المغرب بعد أحداث "الربيع العربي" وتظاهرات 20 فبراير 2011.
في تلك اللحظات الحرجة كان لخطاب الملك محمد السادس في 9 مارس 2011دورا حاسما في توجيه مجرى الأحداث بإعلانه عن جيل جديد من الإصلاحات السياسية التي مكنت من تجاوز الاحتقان السياسي. بالمناسبة، تجدر الإشارة إلى كون الصراعات والأزمات السياسية التي عاشها المغرب بعد الاستقلال، والتي بلغت ذروتها فيما سمي بسنوات الرصاص، جعلت المجتمع السياسي المغربي ناضجا لتدبير صراعاته وخلافاته وتناقضاته تحت سقف الملكية التي رسخت مشروعيتها التاريخية، وهو الأمر الذي يفسر كون حركة 20 فبراير لم ترفع شعار "إسقاط النظام" كما كان الشأن في التظاهرات الشعبية بالبلدان العربية الأخرى.
خلاصة القول، من ضمن الإيجابيات الأكيدة للدينامية الشبابية إعادة الاعتبار للملف الاجتماعي (التعليم والصحة) الذي يتجه بسرعة البرق نحو الخوصصة، إضافة إلى تحريك المياه الراكدة للسياسة المغربية التي اتسمت في السنوات الأخيرة بتغول حكومة أخنوش، وسعيها الممنهج للتضييق على الحريات العامة وفي مقدمتها حرية الصحافة والتعبير، والحق في الإضراب.
لكل هذه الاعتبارات يظل التمسك بالطابع السلمي للحركة الاحتجاجية الطريق الأمثل لتحقيق المكاسب الاجتماعية في ظل الاستقرار، والتصدي بحزم لكل من يسعى لتخريب الممتلكات العامة والخاصة، والزج بالاحتجاج المطلبي السلمي والحضاري في متاهات العنف والعنف المضاد.
بالمقابل ومن أجل تجاوز الاحتقان الاجتماعي والإحساس بالغبن الاجتماعي و"الحكرة" واسترجاع المصداقية والثقة في خطابها، فإن الدولة مطالبة اليوم قبل الغد، بمراجعة سياستها في مجال محاربة الفساد والالتزام بالمبدأ الدستوري الذي يربط ما بين المسؤولية والمحاسبة (إحياء النقاش حول مشروع القانون 10.16المتعلق بتجريم الإثراء الغير المشروع مثلا)، والتطبيق الصارم للقانون في حق لصوص المال العام بنفس الحزم الذي يواجه به المخربون والارهابيون، باعتبار أن سياسة اللاعقاب إزاء اللصوص "الأنيقون" قنبلة اجتماعية موقوتة، من شأنها توفير التربة الخصبة لتجار الأزمات ولكل من يريدون الاصطياد في الماء العكر.
الأمين مشبال، إعلامي وباحث في الخطاب السياسي