محمد الكيحل: تفاعلا مع مطالب الجيل الجديد من الشباب

محمد الكيحل: تفاعلا مع مطالب الجيل الجديد من الشباب محمد الكيحل

توطئة:

قبل عام نشر مقال رأي لي بعنوان:" أحداث الفنيدق وأزمة التصور السياسي والرؤية التنموية للأحزاب السياسية؟" بموقع أنفاس بريس وبالضبط بتاريخ 25 شتنبر2025. كما تم بنفس الموقع بتاريخ   5 فبراير من نفس السنة نشر مقال آخر بعنوان: " النقاشات البرلمانية الحالية تضع العمل السياسي والبرلماني على المحك؟".

 

ولعل الجامع بين هذين المقالين هو التنبيه إلى أزمة الثقة والمصداقية التي أضحت تطال الأحزاب السياسية ببلادنا ونقاشاتها وطروحاتها بالمؤسسة البرلمانية.  ولعل من أهم الخلاصات المتضمنة في مقالنا الأول، تتمثل أن أحداث الفنيدق المرتبطة بمعضلة الهجرة قد كشفت بما لا يدع مجالا للشك أن هناك أزمة الرؤية التنموية لدى الأحزاب السياسية وهذه الأزمة يمكن الكشف عنها انطلاقا من مذكرات وبرامج الأحزاب السياسية بخصوص رؤيتها وتصورها للنموذج التنموي الجديد وتصورها للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ببلادنا بشكل عام.

 

 أزمة الرؤية التنموية للأحزاب السياسية المغربية هاته، لا يمكن فصلها بأي حال من الأحوال عن الهشاشة المزمنة في التنظيم التي باتت تعيشها حيث إن نظاما حزبيا هشا لا يمكن أن يفرز إلا نموذجا تنمويا هشا أيضا. صحيح أن ثمة عوامل مختلفة أدت إلى تعميق هشاشة التنظيم الحزبي المغربي بيد أن ذلك لا يقتصر على المقاومين للتغيير والتحول داخل النظام السياسي، بل تتحمل جزءا منه الأحزاب السياسية المغربية نفسها التي أضحت عاجزة عن صياغة النخب ومتماهية مع زعماء تقليديين لا يترددون في مقاومة ومناهضة كل ما هو مختلف تحصينا لزعامتهم ولو كلف الأمر تجسيد السلوك الانشقاقي كآلية لتصريف الخلاف الحزبي الداخلي.

 

الخلاصة الثانية، جاءت في شكل دعوة موجهة إلى الأحزاب السياسية من خلال مطالبة قياداتها  بتبني برامج تتعدى فيها القضايا الكبرى للبلاد واقتراح أفكار جديدة لها وآليات قابلة للتنفيذ، وفي ذلك تأكيد على ما نص عليه القانون التنظيمي للأحزاب الذي يلزم هذه الأخيرة بالتوفر على أنظمة أساسية وأنظمة داخلية وعلى برامج توضح تصورها لحل القضايا المطروحة، وذلك حتى يكون التنافس في لحظة الانتخابات بين الأحزاب قائما على البرامج والمشاريع أكثر منه على المقاعد والمواقع كما يجري حاليا. كما أكدنا على ضرورة وأهمية إعادة الاعتبار لمصداقية المشهد السياسي الوطني.

 

وإذا كان قد تم التركيز في المقال الأول على إشكالية التمثيل السياسي وأزمة التصور السياسي والرؤية التنموية للأحزاب السياسية ؛ فإن المقال الثاني الذي عنوناه ب" النقاشات البرلمانية الحالية تضع العمل السياسي والبرلماني على المحك"، تم التركيز من خلاله على معضلة الخطاب السياسي والتواصل السياسي وأزمة الثقة الذي أضحت تعاني منهما الأحزاب السياسية.

 

وقد أشرنا في هذا المقال أن المواطن المغربي قد سئم من النقاشات داخل المؤسسة البرلمانية حول مجموعة من المواضيع  والتي لقيت استياءا كبيرا داخل الأوساط الجامعية والرأي العام الوطني ومختلف مواقع التواصل الاجتماعي بشكل عام؛ ليس فقط بالنظر  إلى حجم الضرر الذي تلحقه بمصداقية العمل البرلماني والسياسي بصفة عامة وإنما لما أضحت تطرحه هذه النقاشات من تساؤلات عميقة حول إشكالية النخب والتواصل السياسي والبناء الديمقراطي بشكل عامة بالمجتمع؟

 

وخلصنا أن عملية فتخليق العمل البرلماني يبقى مرتبط بشكل أساسي بتخليق الحياة السياسية وهذه الأخيرة مرتبطة بدورها بتخليق العملية الانتخابية، لأنها تفضي إلى العمل المؤسساتي في شقيه الحكومي والبرلماني. كما لا حظنا بأن هناك تباعدا في الممارسة السياسية بين الخطاب السياسي والوعود الانتخابية وما يتم إنجازه على أرض الواقع في مختلف جهات المملكة؛ كما أن هناك تباعد وتنافس غير مبني على معطيات اقتصادية واجتماعية وسياسية حقيقية، إلى درجة أضحى فيه الخطاب السياسي منقسما إلى شقين متناقضين ومتباعدين.

 

 خطاب سياسي من موقع الهجوم تتبناه بعض الاحزاب والتي كان بعضها في وقت سابق في المعارضة ومنها من كان مشاركا في الحكومة السابقة؛ وخطاب يدافع عن المكتسبات والانجازات وهو الخطاب الذي تتبناه الاحزاب المشكلة للأغلبية الحكومية. وبين هذين الخطابين المتناقضين والمتابعين يتيه المواطن في سرديات وحيثيات لا تهمه ولا تلامس واقعه الاجتماعي والاقتصادي ولا تدغدغ أماله واحلامه. إلى درجة هذا الحد افتقدت الساحة السياسة لخطاب سياسي وتواصلي يكون في مستوى اللحظة والتحديات والطموحات.  بل هناك من قفز على الواقع وبدأ يتكلم على حكومة المونديال. ولاحظنا غياب وافتقار الاحزاب السياسية في مختلف مواقعها لتواصل سياسي فاعل بين المنتخبين والناخبين وهو أمر في غاية الخطورة؛ فلا ديمقراطية بدون تواصل فهذا العنصر هو الذي يصنع المستقبل السياسي من خلال تظافر الجهود بين حامل المطالب والحاجيات( الناخب) وبين المستجيب لها أو المتفاوض عليها، على الأقل،( المنتخب)،فلا سياسة انتخابية فاعلة بلا تواصل ديمقراطي فاعل.

 

تلك اليوم هي القضية المصيرية والاستراتيجية على مستوى العلاقة الواجب توافرها ما بين المسؤول السياسي والمواطن السياسي، واللذين يتحملان على عاتقهما كلفة الانقطاع في حلقة التواصل المفروضة واقعيا؛ فعلى سبيل المثال، تظل مهام النائب البرلماني محصورة في التشريع والمراقبة ثم التقييم، لكن تحقيقها يصعب في ظل غياب الفعل الديمقراطي الذي يستند على حضور المواطن الفعلي وحضور هذا الأخير لا يمكن أن يحدث إلا في وضعية المهمة الرابعة والتي نسيمها بالوظيفة التواصلية.

 

فمكانة الانتخابات في الحياة السياسية العامة ترتبط بمقدار ثقافة الوعي السياسي والإدراكي الذي يمنحه المجتمع لمواطنيه، والذي تتجلى أغلب مظاهره في الفضاءات العامة المفتوحة للنقاش الحر والنزيه حول القضايا الوطنية الأساسية- دون استثناء ما عدا تلك المرتبطة بالمقدسات والثوابت الوطنية - وعلى رأسها ثقافة الانتخابات فضلا عن دور مؤسسات التنشئة السياسية في هذا الإطار وفي طليعتها الأحزاب السياسية.

 

 في هذين المقالين الذي مر على كتابتهما سنة كاملة، كنا قد طرحنا مجموعة من الأسئلة حول الإشكاليات التي يعاني منها المشهد السياسي المغربي من قبيل: إشكالية التمثيل السياسي وأزمة التصور السياسي والرؤية التنموية للأحزاب السياسية، ومعضلة الخطاب السياسي والتواصل السياسي وأزمة الثقة الذي أضحت تعاني منهما الأحزاب السياسية؛ فإننا نجد أنفسنا اليوم نعيد وبحرقة طرح نفس الأسئلة من جديد للتفكير والتأمل والنقاش: فما الذي حصل ويحصل في المشهد السياسي؟ ألم تعد هناك حقا قيمة للعمل السياسي النبيل ببلادنا؟ فهل ماتت السياسة مع الزعماء السياسيين الذين نشأوا في حضن الحركة الوطنية وشربوا من ثقافتها السياسية والفكرية الثرية؟ ألم يعد أعضاء الحكومة والبرلمانيين الذين ينتمون للأغلبية الحكومية يتسع قلبهم لطرح الأسئلة الرقابية من لدن نظائرهم من فرق المعارضة؟

 

ما هذا المستوى وما هذا التفكير الأحادي والنظرة الضيقة في طرح الملفات والقضايا التي تشغل بال الرأي العام الوطني الذي ينتظر- في ظل الظروف المناخية القاسية والارتفاع المهول في أسعار المواد الغذائية- نقاشا عاما هادئا وجادا ومفيدا يريحه على الأقل من وطأة الظروف المعيشية القاسية؟ وقبل هذا وذلك أهذا هو جزاء المواطنين الذين بفضلهم وصل هؤلاء السادة أعضاء الحكومة والبرلمانيين المحترمين هرم السلطة التنفيذية والتشريعية ومنهم من وصل إلى هياكل السلطة القضائية بفعل التزكيات السياسية؟

 

 تساؤلا ت وغيرها، نطرحها من جديد اليوم في ظل غياب دور مختلف الوسائط الاجتماعية ( (الأحزاب والنقابات ومختلف الفاعلين المعنيين) بإثارة نقاش موضوعي وبشكل حيادي عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المقلقة التي يعيشها غالبية الشرائح الاجتماعية. ألا يملك هذا الشعب نخبا فكرية وثقافية وجامعية وإعلامية تساءل الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي ببلادنا من منظور موضوعي وحيادي خدمة لاستقرار البلاد وإبعاد خطر  الاحتقان الاجتماعي لا سيما في ظل  الانتشار الكبير لقنوات التواصل الاجتماعي الذي يقرب الصورة  والوضعية السياسية والبرلمانية لغالبية الشرائح الاجتماعية؟ 

 

لقد كشفت مطالب الشباب التي تشهدها بلادنا حاليا، عن عطب  أو عدم الفهم العميق لنبل العمل السياسي ومصداقية العملية الانتخابية وتدني الخطاب والتواصل السياسي وكلها عناصر أساسية لتحقيق الغايات المتوخاة من وراء إجراء العمليات الانتخابية وأساسية للبناء الديمقراطي. ولا شك أن  ما يسميه البعض اليوم ب" حراك جيل الرقمي" هي إحدى النتائج المترتبة عن الإشكاليات التي ما زال يعاني منها المشهد السياسي المغربي للأسف الشديد.

 

ولعل ما ميز رؤية مكونات الأغلبية والمعارضة بمجلس النواب هو التباين في التصورات حول المطالب التي حملتها مظاهرات المجموعة الشبابية الناشئة التي تسمي نفسها " جيلZ212 "خصوصا أن المعارضة تؤكد أن " هذه الاحتجاجات تعبر عن أزمة ثقة متنامية في السياسات العمومية، وتكشف عن فشل في الوفاء بالوعود المرتبطة بالتشغيل والعدالة الاجتماعية". من جانبها شددت مكونات من الأغلبية النيابية أن " ما يحدث يمثل دعوة جماعية لمراجعة الأداء السياسي والمؤسساتي دون السقوط في منطق التراشق أو تحميل المسؤوليات بشكل انتقائي: داعية إلى " تفاعل جماعي يضع مصلحة البلاد فوق الحسابات الضيقة"، ومؤكدة أن " مواجهة تحديات المرحلة تستدعي تقاسما متوازنا للمسؤولية وتعبئة شاملة لمختلف الفاعلين".

 

 بين تباين الآراء بين الفاعلين السياسيين والفرق البرلمانية بخصوص الاحتجاجات الشبابية، تجد قوى الأمن نفسها تؤدي ضريبة فشل الفاعل الحزبي والبرلماني في التقاعس في القيام بواجباته الدستورية والقانونية؛ وهو وضع قد يؤدي إلى مزيد من الاحتقان الاجتماعي خاصة في ظل خروج الاحتجاجات الشبابية عن طابعها السلمي وإن  كانت قياداتها المجهولة الهوية قد أكدت عن سلمية  مطالبها وتبرئتها من أحداث العنف والشغب والإضرار بالممتلكات العمومية في العديد من المدن المغربية بحسب تصريح الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية  الذي حاء فيه  "عرف المغرب احتجاجات شبابية خارج الإطار القانوني في الأسبوع الحالي أدت يوم الثلاثاء  فاتح أكتوبر 2025إلى إضرام النار والحاق أضرار جسيمة في  142 عربة تابعة للقوات العمومية و  20سيارة تابعة للخواص، وتسبب العنف خلال الاحتجاجات في إصابة   263 عنصر من القوات العمومية و  23 شخص آخرين وكذا القيام بعمليات النهب والتخريب في ممتلكات خاصة وعمومية بعدد من الأقاليم. الاحتجاجات أدت إلى توقيف 409 شخص تحت تدابير الحراسة النظرية حسب الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية.

 

وبين تباين الآراء بين الفاعلين السياسيين والفرق البرلمانية بخصوص الاحتجاجات الشبابية وتكييف وزارة الداخلية بأنها أعمال خارج الإطار القانوني، وبين من يعتبرها تخدم أجندات خارجية من خلال تأكيد البعد الأجنبي في الاحتجاجات؛ تبقى مطالب الشباب ليس موجهة عابرة بل هي في عمقها تعبير عن أزمة ثقة ممتدة متعددة الأوجه. لكن الجديد اليوم هو تحول هذا النقاش إلى البيئة الرقمية؛ فاليوم نحن نعيش تحولا كبيرا في مختلف أشكال المطالب والاحتجاجات، فقد تغير الخطاب وتغيرت معه قنوات تصريف الخطاب، وتغيرت معه كذلك الأنماط التعبيرية والأشكال التي كانت إلى عهد قريب تقليدية ومركزية.

 

 اليوم نحن أمام تغيرات جذرية لجيل جديد ولد من رحم أمه وهو محاط بالثورة الرقمية التي ترعرع في حضنها؛ هذا التحول الرقمي جعل كل المتطلبات تجد صداها داخل مواقع التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة. وأبرز مثال على ذلك هو منصة " ديسكورد" التي أعتمدها " جيل Z " في تواصله الرقمي حول قضايا تهم بالدرجة الأولى الشباب من قبيل الحق في التعليم والصحة والشغل. لعل أهم الخلاصات التي  نستشفها من خلال"  مطالب الشباب"  والتي نعتقد بأنه لا يوجد هناك اختلاف حولها بين الباحثين المغاربة في مختلف تخصصاتهم المعرفية، هو  فقدان الثقة بين الفاعل السياسي أو النقابي وبشكل عام مختلف الوسائط الاجتماعية وبين فئة الشباب.

 

جيل جديد تؤكد البيانات الرسمية أنهم أضحوا يشكلون ثقلا ديمغرافيا يتجاوز ربع سكان المغرب، لكنهم في الوقت ذاته الفئة الأكثر تضررا من أزمة البطالة والهشاشة الاجتماعية، بالنظر  للقوة البشرية الشابة لهذا الجيل التي تتراوح أعمارها بين 13و28  سنةاليوم . فحسب معطيات المندوبية السامية للتخطيط، بلغ عدد المغاربة البالغين ما بين بين 13و28  سنةاليوم ما مجموعه  9 ملايين و 657 و283 نسمة. وبحسب نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة2024 ، بلغ عدد سكان المغرب330 .828. 36 نسمة، وهو ما يجعل " جيل" يمثل حوالي  3, 26 من مجموع سكان المملكة، ما يمنحهم ثقلا ديمغرافيا واضحا.

 

 يتضح  أن " جيل  " ليس مجرد فئة عمرية عابرة، بل هو قوة بشرية تمثل ربع السكان، تواجه تحديات مركبة، أبرزها البطالة والهشاشة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه تقود دينامية جديدة في الفعل الاحتجاجي والسياسي، ومع تزايد حضوره العددي والنوعي، يظل هذا الجيل مرشحا ليكون أحد محددات المشهد الاجتماعي والسياسي في السنوات المقبلة.  وقد تتحول إحباطاتها الاقتصادية ومطالبها المتعلقة بإصلاح التعليم والصحة وضمان الشغل، لا قدر الله، إلى وقود حراكات اجتماعية من نوع جديد قد تخفوا تارة ولكنها قد تظهر في كل لحظة وحين، ما دامت المطالب لم تتحقق بعد في نظر هؤلاء الشباب على أرض الواقع، ومادامت هذه الاحتجاجات تقودها قيادات مجهولة الهوية من خلف الشاشات وتصنع شعاراته عبر منصات التواصل الاجتماعي، لكنه سرعان ما يجد صداه وزخمه في الشارع  العام والرأي العام الوطني والدولي؛ خاصة وأن بلادنا مقبلة على تنظيم تظاهرات رياضية كبرى قد تحاول بعض الجهات والأطراف استغلال هذه اللحظة لتصريف أجندتها العدائية تجاه المملكة لتشويش صورتها وضرب مكتسباتها التنموية المملكة ومحاولة المساس بالاستقرار والأمن التي ظلت تنعم به بلادنا تحت القيادة الملكية الرشيدة الضامنة للاستقرار السياسي والتماسك والتضامن الاجتماعي المغربي.

محمد الكيحل، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالمعهد الجامعي للدراسات الافريقية

 رئيس مركز اشعاع للدراسات الجيوسياسية والاستراتيجية.