يشهد المغرب منذ عقدين تحولات بنيوية عميقة تتقاطع فيها الديناميات الشبابية مع الثورة الرقمية، في سياق عالمي يتسارع فيه التحول التكنولوجي والاجتماعي. لم يعد جيل زاد مجرد فئة عمرية ضمن البنية السكانية، بل أصبح فاعلاً مجتمعياً ورقمياً يعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة. وهذا يضع المؤسسات، وفي مقدمتها المرجعية العليا المتمثلة في إمارة المؤمنين، أمام سؤال جوهري: كيف تتحول الشرعية التاريخية والرمزية إلى إصلاحات مؤسساتية ملموسة تستجيب لمتطلبات الحاضر وتحافظ في الوقت نفسه على وحدة الأمة واستقرارها؟
مطالب الشباب: من الاحتجاج إلى أزمة الثقة
تتركز مطالب جيل زاد حول أربعة محاور كبرى: الحق في تعليم نوعي يواكب الاقتصاد الرقمي؛ ضمان الرعاية الصحية والاجتماعية؛ توفير فرص الشغل ومحاربة البطالة؛ ثم تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد. هذه المطالب، وإن بدت اجتماعية الطابع، تعكس في العمق أزمة ثقة متنامية بين الشباب والدولة، ناجمة عن ضعف آليات الوساطة السياسية وتباطؤ الاستجابة للإصلاح. ومن ثمة، لم يعد الاحتجاج مجرد رد فعل ظرفي، بل مؤشراً استراتيجياً على خلل في العلاقة التعاقدية بين المجتمع ومؤسساته.
الفضاء الرقمي: المجال العمومي الجديد
أضحى الفضاء الرقمي الامتداد الطبيعي للمجال العمومي بالمعنى الذي صاغه هابرماس، حيث تنتج المعاني وتتداول الخطابات وتُبنى السرديات. غير أن سرعة الانتشار وقوة التأثير الرمزي جعلت منه ساحة هشّة أمام التدخلات الخارجية، الإقليمية والانفصالية، التي تسعى إلى تضخيم الأخطاء المؤسساتية وزرع الشكوك في جدوى السياسات العمومية. وهكذا، يتقاطع النقاش المشروع للشباب مع رهانات جيوسياسية عابرة للحدود.
البعد الدستوري: توزيع الأدوار بين الشرعية الرمزية والمسؤولية السياسية
يحدد الدستور المغربي موقع الملك باعتباره رئيس الدولة، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوامها واستمرارها (الفصل 42). غير أن التدبير اليومي للشأن العام موكول إلى الحكومة المنتخبة والبرلمان، وفق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. هذا الترتيب يرسّخ تدريجياً فلسفة الملكية الدستورية البرلمانية، ويمنح المؤسسات المنتخبة مجالاً أوسع لتحمل مسؤولياتها. لكن فشل هذه المؤسسات في الاستجابة الفعلية لتطلعات الشباب يعيد طرح الحاجة إلى تدخل تحكيمي يعيد بناء الثقة ويؤسس لعقد اجتماعي جديد تحت رعاية المرجعية العليا.
الأبعاد الاستراتيجية: بين الشرعية والتنمية والهوية
- البعد السياسي: التهديد لا يكمن في المطالب ذاتها، بل في اتساع الفجوة بين الشباب والدولة، وما يترتب عنها من تآكل الوساطة السياسية.
- البعد الاجتماعي: إمارة المؤمنين تظل الضامن الرمزي للهوية الجامعة، لكن تفعيل هذا الدور يستلزم سياسات اجتماعية عادلة تدمج الشباب في الدورة التنموية.
- البعد الاقتصادي: نجاح أي مشروع مجتمعي رهين بخلق الثقة في مسارات التنمية. فغياب العدالة الاقتصادية يُضعف الشرعية السياسية ويغذي السخط الرقمي.
السيناريوهات الممكنة
يمكن استخلاص ثلاثة مسارات رئيسية:
1. المسار المتشائم: استمرار عزلة الشباب وتفاقم أزمة الثقة، بما يهدد الاستقرار.
2. المسار الواقعي: إصلاحات جزئية تخفف التوتر دون معالجة جذرية للأزمة.
3. المسار الاستباقي: صياغة عقد اجتماعي جديد، يستند إلى الشرعية الرمزية ويترجمها إلى إصلاحات عملية، ما يعيد وصل العلاقة بين الدولة والمجتمع.
نحو منظومة مؤسساتية ملائمة للعصر الرقمي
لم يعد الرهان مجرد "إنصاف جيل زاد"، بل إعادة تكييف كل البنية المؤسساتية – الدستورية والدينية والاجتماعية والاقتصادية – مع التحولات الجارية. الثورة الرقمية، وما يصاحبها من ذكاء اصطناعي وتغيرات في أنماط التواصل والإنتاج، تفرض تجديد أدوات الحكامة ومقاربات الفعل العمومي. الحفاظ على الشرعية لم يعد قائماً فقط على الرمز، بل على المردودية والإنجاز.
خاتمة: نحو ضرورة تاريخية
إن ترك معالجة الاحتجاجات للحكومة يعكس نضجاً مؤسساتياً ومساراً نحو ملكية برلمانية قائمة على توزيع واضح للمسؤوليات. غير أن زمن التحولات الرقمية والاجتماعية الراهنة يتطلب أكثر من مجرد إصلاحات ظرفية؛ إنه يستدعي إعادة بناء العقد الاجتماعي بما يربط الشرعية الرمزية بالإنجازات الملموسة.
إن العقد الاجتماعي الجديد، بروح متجددة لإمارة المؤمنين، ليس خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة تاريخية واستراتيجية لضمان وحدة الأمة وتماسكها، وإدماج جيل الشباب باعتباره قوة مستقبلية، وتأهيل المؤسسات المغربية لتكون فاعلة وشرعية في عالم رقمي سريع التغير.