ما يقع اليوم في المغرب أمام وداخل المستشفيات العمومية وفي الشارع العام من احتجاجات للمطالبة بتجويد الخدمات الصحية وبتنزيل فعلي للحق الدستوري في الصحة بالشكل الذي يضمن ولوجا عادلا ومتكافئا لكل المغاربة على قدم المساواة، هو ليس بالأمر الذي يمكن أن نعتبره مفاجئا وأن نستغرب له لأن أسبابه واضحة وجليّة، وأضحى الخاص والعام يعرفها، لأن الولوج إلى المستشفى العمومي هو أمر ليس بالسهل والهيّن إذ تعترضه العديد من التحديات والإكرهات وتتخلّل أشواطه الكثير من المعاناة، على رأسها طول آجال المواعيد، وحتى حين يضع المريض قدميه في مسلك العلاجات سيجد نفسه في دوامة من التيه والتخبط، بسبب الفقر الكبير الذي تعانيه الصحة العمومية، ليس فقط على مستوى الموارد البشرية، وخاصة الأطباء المتخصصين، وإنما كذلك بسبب إشهار ورقة الأعطاب المتكررة التي تطال التجهيزات البيوطبية الضرورية، في حال وجودها، من أجل استكمال الفحوصات بالأشعة وغيرها، كأجهزة الفحص بالصدى أو الرنين المغناطيسي أو غيرها، ونفس الأمر بالنسبة لتحاليل الدم التي تنعدم بسبب غياب المفاعلات المخبرية أو غيرها من الأسباب، دون الحديث عن أن المريض يكون ملزما باقتناء المستلزمات الطبية المختلفة رغم توفره على تغطية صحية، سواء في إطار نظام أمو تضامن «المجاني» أو نظام «أمو الشامل» هذا الأخير الذي يقدم المنخرط فيه اشتراكات شهرية للاستفادة من الحق في الصحة، في حين أن هناك الكثير من المواطنين الذين لا يتوفرون اليوم على تغطية صحية بسبب الخوارزميات التي يستعملها المؤشر لتصنيف الوضعية الاجتماعية للمغاربة والتي أقصت عددا ليس بالهيّن بالرغم من الوضعية الهشة التي يعيشونها اقتصاديا واجتماعيا.
هذه الإشكالات ليست هي الوحيدة التي تجعل من المستشفى العمومي عبارة عن جدران بدون روح، بل ينضاف إليها الاكتظاظ وارتفاع الطلب مقابل الشحّ في الموارد البشرية كما أسلفنا، والتي تجد نفسها في مواجهة ضغط يجعل عددا من الأطر الطبية والصحية بشكل عام وتعيش حالة من الاحتراق النفسي، خاصة حين يُطلب منها القيام بمهام غير مؤطرة قانونيا ولا توفر لها الحماية للقيام بذلك، كما هو الشأن بالنسبة لتدخلات ممرضي التخدير والإنعاش في غياب الطبيب المختص، أو في حالات النقل الصحي أثناء مرافقة مريض من مؤسسة استشفائية إقليمية إلى مستشفى جامعي نموذجا، مع استحضار ظروف هذا النقل التي تكون محفوفة بالمخاطر.
هذه الأعطاب لا تعني بأن المغرب لم يقطع أشواطا مهمة من أجل تطوير منظومته الصحية، بل العكس من ذلك، فقد خصّص لها ميزانيات جد مهمة، ارتفعت بالتوالي خاصة بعد جائحة كورونا، وإن لم تصل بعد إلى المعدل الذي توصي به منظمة الصحة العالمية ما بين 10 و12 في المائة، هي اليوم تقارب 7 في المائة، كما أعدّ الخبراء والمختصون مخططات وبرامج وخطط وسياسات مختلفة، محدودة في الزمن والأثر، لكن وبكل أسف، إن استطاع بعضها تحقيق نتائج متوسطة أو مهمة في بعض الحالات، فإن الكثير منها لم يؤت أكله لأسباب مختلفة، يحضر فيها «الذاتي» و«الموضوعي»، على رأسها ما يمكن تسميته بـ «التهافت السياسي» الذي جعل الصحة في مرات عديدة «رهينة» تقديرات وتجاذبات تتجاوز خدمة الصالح العام، وهو ما جعل الكثير من الفاعلين ينادون في مناسبات كثيرة بإحداث هيئة عليا للصحة، على أمل أن تكون «مؤسسة حيادية» تضمن «التوزان» وتحرص على استمرارية السياسات الصحية مع تقييمها في كل أطوارها من أجل إعادتها إلى سكّتها الصحيحة متى أدى عامل من العوامل المختلفة إلى مغادرتها لها، «طوعا» أو «قسرا».
واليوم، وبعد كل الأشواط التي قطعها المغرب، سواء في إطار محاربة الأوبئة والأمراض المعدية، أو توسيع برامج التلقيح، مرورا بالتكفل بأمراض لا تزال تشكل تهديدا صحيا كالسل والسيدا وغيرهما، وباستحضار مراحل تعميم التغطية الصحية، منذ العمل بـ «شهادة الاحتياج» مرورا بنظام المساعدة الطبية «راميد»، هذا الأخير الذي جاء نتيجة عزيمة قوية للمرحوم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول السابق في حكومة التناوب، الذي سطّر تفاصيله قبل أن يرى النور، بالرغم من الإشكالات التي تلت التنزيل والعمل بالنموذجين معا، الأول والثاني، إلى جانب التوقف عند محطة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ومساهماتها المتعددة في مجال الصحة، وكذا إحداث مؤسسة للاسلمى لمحاربة السرطان وما قدمته هاته المؤسسة للمصابين بهذا المرض القاسي وعلى رأسهم النساء، وصولا إلى الورش الملكي الرائد للحماية الاجتماعية، وفي مقدمته قرار تعميم التغطية الصحية، الذي يمضي في طريقه، بالرغم من علامات الاستفهام التي ترافق بعض محاوره والإشكالات التي تعترضه على مستوى التنزيل، فإن المرض الكبير الذي تعاني منه الصحة في بلادنا هو غياب الحكامة من جهة، لأن الكثير من القرارات يتضح بأنها غير محسوبة بالشكل المطلوب علميا وعمليا بما يضمن فعالية نتائجها واستمراريتها، كما هو الشأن بالنسبة للتمويل الصحي، خاصة في الشق المتعلق بالتأمين الإجباري عن المرض في إطار «أمو تضامن» لأن المعادلة التي تمت هندستها ستعيد تكرار نفس سيناريو نظام المساعدة الطبية «راميد» سابقا، ولأن المرضى اليوم وبسبب تردي الخدمات الصحية العمومية يتجهون نحو القطاع الخاص بالرغم من كلفته المرتفعة، وتشير الأرقام في هذا الصدد إلى أن 97% من نفقات CNSS للأجراء و96% من نفقات CNSS لغير الأجراء تتوجه نحو المصحات الخاصة، بل أن حتى الفئات الهشة المستفيدة من أمو تضامن يوجّهون حوالي 57% من ملفاتهم نحو القطاع الخاص، في حين أن مؤمّنو CNOPS موظفو الدولة، فتصل نسبتهم إلى 84% الذين يستفيدون من خدمات نفس القطاع، وهو ما يحيلنا على إشكالية ضمان استمرارية المستشفى العمومي الذي لم يعد يقوم بدوره الأساسي لأنه يجب أن يكون قاطرة للصحة لا العكس، وهذا يتأكد حين نجد أنه لا يستفيد سوى من نسب جد ضعيفة تتراوح بما بين 3 و16%، وبالتالي فهذا الاختلال في التوازن سيؤدي إلى إفلاس المستشفى العمومي، حتى وإن كانت الجهود تتوجه اليوم لتنزيل مجموعات صحية ترابية من خلال تجميع كل المؤسسات الصحية في الجهة على مستوى بنية واحدة لها استقلالية مالية وإدارية، التي تعاني أصلا من خصاص في الموارد البشرية وفي التجهيزات، ومن ضعف التمويل، ويزداد السوء أكثر بالتوجه نحو التخلي عن المستشفيات العمومية تحت مسمى «التمويلات المبتكرة». كل هذا لا ينسينا إشكالية أخرى تتعلق بالتعريفة المرجعية الوطنية المتقادمة التي تعود لسنة 2006 والتي على أساسها يتم احتساب التعويضات عن المصاريف العلاجية حيث يجد المواطن المؤمّن نفسه يتحمل حوالي 60 في المائة من مصاريف كل ملف مرضي على نفقته الخاصة، وهو ما يؤدي إلى تخلي الكثيرين عن العلاج ولا يطرقون أبواب العيادات والمؤسسات الصحية إلا عند الضرورة القصوى، مما يرفع كلفة العلاج ويؤخر من نسب التعافي ويهدد بتبعات صحية واقتصادية واجتماعية أوخم.
من جهة ثانية هناك مرض آخر يتهدد الصحة العمومية وهو ما يمكن تسميته بالعلّة الأخلاقية، لأنه إن كانت هناك فئة من المهنيين الشرفاء في هذا القطاع الذي يقومون بواجبهم المهني على أكمل وجه، فإن هناك فئة أخرى جعلت من المستشفى العمومي مجرد محطة لاستقطاب زبائن نحو وجهات أخرى، أو مصدرا «ثانويا» للدخل، وهي تقضي معظم وقتها في فضاءات أخرى وتترك المرضى يئنون ألما، إضافة إلى معضلة الاستقالات، وفي حالة الرفض يتم هجران مكان العمل من أجل حث الوزارة على تفعيل المساطر الإدارية، وكذا هجرة الكفاءات الصحية نحو الخارج التي تزداد حدتها، ومحدودية التكوين، مع استحضار المشاكل التي تخبطت فيها كليات الطب والصيدلة وتأثيرها على الخريجين، ونفس الأمر بالنسبة لمشاكل الأطباء الداخليين والمقيمين، وإشكال أرضيات التداريب، وكذا عدم ملائمة التكوين في كثير من الأحوال لمتطلبات سوق العمل الصحي مما أنتج العديد من العاطلين (في مجال التمريض) في الوقت الذي يصل الخصاص إلى قرابة الـ 100 ألف ما بين أطباء وممرضين وتقنيين للصحة، ولا ننسى كذلك مشكل انقراض الأدوية من الصيدليات واختفاء العديد من الأنواع، وارتفاع أسعار عدد منها مقارنة بالأسواق الدوائية في دول أخرى.
هذه الأعطاب وغيرها، وفي ظل تدبير غير سليم لا يضمن استمرارية السياسات الصحية والتقائيتها مع تقييمها بشكل مستمر، لن يؤدي إلا لتفشي مظاهر الاحتقان والسخط، في أوساط المهنيين الشرفاء، وفي صفوف المواطنين، لأن الوزارة لا يمكن أن تعالج هذه الأمراض بدوريات ومناشير وتصريحات ترمي باللائمة على موظفيها فقط، وتحث على احترام الوقت وعلى الرفع من المردودية في غياب وسائل العمل، وعلى رأسها توفير الموارد البشرية الضرورية كمّا وكيفا، وتوفير الأرضية التي تمكّن من تحقيق الجودة على مستوى المعدات والأجهزة والأدوية وغيرها، وكذا تحفيز المهنيين ماديا ومعنويا وحمايتهم من كل اعتداء، وربط المسؤولية بالمحاسبة الحقيقة، واعتماد تدبير جهوي يكون قادرا على تشخيص المشاكل وتحديد الاحتياجات حسب خصوصيات كل جهة، وتوفير ترسانة قانونية تحمي المزاولين لمهامهم في إطار واضح بعيدا عن كل تداخل، وتفعيل شراكة عقلانية وواضحة بين القطاعين العام والخاص، التي لم تتطور وتوقفت عند حدود بعض المجالات.
إننا اليوم ونحن نستعد لاستقبال تظاهرات كبرى من قبيل مونديال 2030، وفي ظل التحولات الكثيرة التي تعرفها بلادنا والتطور الذي تشهده في عدد من المجالات لا يمكن القبول باستمرار تدبير قطاع الصحة الحيوي بالارتجالية والتعامل اللحظي مع عدد من قضاياه، ويجب في المقابل تمكين «مؤسسات الحكامة الصحية» مثل الهيئة العليا للصحة، والوكالة الوطنية للأدوية ومستلزمات الصحة والوكالة الوطنية للدم ومشتقاته من القيام بأدوارها الصحيحة، بعيدا عن كل تخبط أو وصاية «غير شرعية»، لكي تساهم من موقعها، إلى جانب الجمعيات العلمية العالمة والشركاء الاجتماعيين وعموم المتدخلين، في دعم جهود إصلاح المنظومة الصحية، التي أضحت ورشا كبيرا تشريعيا وتنظيميا، لكنها ولحد الساعة تفتقد للنجاعة التي يمكن للمواطن أن يلمس آثارها على صحته بشكل مباشر، وأن يتم كذلك الاشتغال بالنفس الوحدوي الذي ميّز فترة مواجهة الجائحة الوبائية لفيروس كوفيد 19، حيث أعطى الكلّ مثالا على المواطنة الرفيعة وعلى التضامن الفعلي من أجل تجاوز تلك الأزمة الصحية.
وحيد مبارك/ رئيس القسم الاجتماعي بجريدة الاتحاد الاشتراكي، صحفي مهتم بالشأن الصحي وقضايا الصحة