عبد الحكيم العياط: جيل زد يحتج.. الإنذارات المبكرة حول قطاع الصحة التي لم تُسمع

عبد الحكيم العياط: جيل زد يحتج.. الإنذارات المبكرة حول قطاع الصحة التي لم تُسمع عبد الحكيم العياط
تشهد الساحة المغربية في الآونة الأخيرة موجة احتجاجات يقودها جيل Z، جيل نشأ في زمن الرقمنة والسرعة، لكنه اصطدم بواقع اجتماعي واقتصادي لم يلبِّ تطلعاته. هذه الاحتجاجات، وإن بدت للبعض مفاجئة، فإنها في حقيقتها نتاج تراكمات طويلة، سبق أن نبهنا إليها من خلال سلسلة مقالات عن أعطاب المنظومة الصحية الوطنية.

لقد حذرتُ في أكثر من مناسبة من خطورة تسليع الخدمات الصحية ، ومن ضعف الموارد البشرية وتوزيعها غير المتوازن، ومن الفساد المستشري داخل المصحات الخاصة ، إضافة إلى هشاشة الحكامة في تسيير المستشفيات وغياب الرؤية الاستراتيجية في تنزيل الإصلاحات. هذه الاختلالات لم تكن مجرد مؤشرات تقنية، بل كانت تعبيراً عن عجز الدولة عن توفير ركيزة أساسية من ركائز العقد الاجتماعي: الحق في الصحة.

 جيل زد الذي يرى نفسه اليوم محروماً من تعليم جيد ومن خدمات صحية لائقة، خرج للشارع معبراً عن فقدان الثقة في المؤسسات. إنهم ليسوا فقط شباب غاضب  بل شهود على إخفاقات سياسات عمومية لم تواكب التحولات المجتمعية.
 أوضح تقرير برلماني أن الميزانية المخصصة للصحة تواجه قيودًا صارمة مرتبطة بسياسات ضبط التوازنات المالية، مما يُعيق تدخلات عاجلة لسد العجز في الأدوية خاصة الأمراض المزمنة.  التقرير دعا إلى تحرير هذه الميزانية، وتسهيل رفعها بشكل يتماشى مع حجم الاحتياجات الصحية الفعلية، لا بناءً على المحاسبات المالية الضيقة فقط.
مركز حقوقي وطني أصدر تقريرًا في شتنبر 2025 يؤكّد أن المنظومة الصحية العمومية تعيش أزمة بنيوية خانقة: من المراكز الصحية  إلى المراكز الاستشفائية الجامعية ، وتعكس الاحتجاجات أمام المستشفيات  وفيات مأساوية بسبب الإهمال الطبي وتجهيزات متهالكة وسوء التدبير.
الموارد البشرية في قطاع الصحة مازالت بعيدة عن المعايير التي توصي بها منظمة الصحة العالمية. ففي المغرب لا يتجاوز معدل الأطباء 8.1 لكل عشرة آلاف نسمة، في حين أن المعدل المطلوب هو 23 طبيبًا على الأقل. هذا الخصاص ينعكس بشكل مباشر على جودة الخدمات، حيث يضطر المواطنون في القرى والمناطق النائية إلى التنقل عشرات الكيلومترات من أجل فحص بسيط أو ولادة طبيعية، وهو ما يزيد من حدة الإحباط لدى فئة الشباب التي ترى في ذلك غياباً للعدالة المجالية.

وفي السياق ذاته، كشفت دراسة أكاديمية نُشرت سنة 2024 أن أكثر من 30% من المستشفيات العمومية في المغرب تشتغل بأقل من طاقتها الإنتاجية المثلى، مما يعني أن الموارد المتوفرة أصلاً لا تُستغل بشكل فعال. هذا العجز في الكفاءة يضع علامات استفهام حول غياب الحكامة الجيدة وفعالية الاستثمار في البنية التحتية الصحية، ويؤكد أن الأزمة ليست فقط مرتبطة بالتمويل وإنما أيضاً بطريقة التدبير وتوزيع الموارد.
مقالاتنا السابقة لم تكن مجرد انتقاد من داخل قطاع الصحة، بل كانت بمثابة جرس إنذار. حذرتُ من أن الاستمرار في تجاهل الأعطاب البنيوية سيفتح الباب أمام احتجاجات اجتماعية واسعة. واليوم نرى أن ما كان يبدو حينها توقع صار واقعا ملموسا في الشارع. إن تجاهل تلك الإنذارات وعدم التقاطها في وقتها، جعل الأزمة أعمق، وجعل الشباب يفقد الثقة في الإصلاحات المعلنة، التي غالباً ما تظل حبيسة الخطاب الرسمي دون أثر ملموس في حياة المواطن اليومية.

الاحتجاجات الحالية لجيل Z ليست مجرد غضب لحظي، بل هي تعبير عن أزمة ثقة في جدوى الإصلاحات. لذلك، فإن إعادة النظر في قطاع الصحة يجب أن تكون مدخلاً لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. المطلوب اليوم ليس فقط ضخ الموارد أو سن قوانين جديدة، بل اعتماد حكامة حقيقية، محاربة الريع والفساد، وضمان العدالة في الولوج إلى الخدمات.
 
وإذا كان الحاضر يكشف عن حجم الإخفاقات، فإن المستقبل لا يزال مفتوحاً على فرص حقيقية للإصلاح. يمكن تحويل هذه الاحتجاجات إلى لحظة تأسيسية لإطلاق حوار جاد مع الشباب، وإشراكهم في صياغة السياسات العمومية بما فيها تلك المتعلقة بالصحة. إن الإنصات إلى جيل Z اليوم ليس ترف سياسي، بل ضرورة لضمان الاستقرار الاجتماعي، ولتحويل الغضب الشعبي إلى طاقة اقتراحية تساهم في بناء مغرب أكثر عدلا وإنصافا.