عبد الرفيع حمضي: جيل Z.. وعـي صامت على هامش السياسة

عبد الرفيع حمضي: جيل Z.. وعـي صامت على هامش السياسة صورة تعبيرية
الشائع أن شباب اليوم لا يهتمون بالشأن العام، وأن الوطن عندهم لا يتجاوز كرة القدم، وأنهم غارقون في اللهو والإعلانات والفوضى الرقمية. غير أنه، وعلى مدى ربع قرن من التبرع بالدم، بمعدل ثلاث مرات في السنة، لم أكن أجد أمامي في كل مرة إلا هؤلاء الشباب، بقبعاتهم المائلة، وملابسهم المتنوعة، وحلاقات شعرهم الغريبة، وسلاسلهم وأساورهم المثيرة، لكنهم يقفون في الصف بوعيٍ للتبرع بدمهم لأشخاص لا يعرفونهم. والمعروف أن التبرع بالدم ليس نزوة عابرة، بل وعي إنساني عميق، يضع هؤلاء الشباب في قلب الفعل التضامني الوطني. إنه جيل الوعي الخفي.
 
فمنذ أن كتب أرسطو أن "الإنسان حيوان سياسي بطبعه"، ظلّ النقاش قائمًا حول كيفية إدماج الطاقات الجديدة في نسيج المجتمع. فكل جيل يولد في سياق تاريخي محدد، ويطبع وعيه ورؤيته للعالم. واليوم، يتصدّر المشهد العالمي ما يُعرف بـ "الجيل Z". فالتسمية ليست مجرد وسم إعلامي، بل هي مفهوم حاضر في علم الاجتماع والسياسة: جيل وُلد ما بين 1997 و2012، ونشأ في قلب الثورة الرقمية. لا يعرف عالمًا بلا إنترنت أو هواتف ذكية، ويتصرّف بعفوية في فضاء افتراضي صار امتدادًا لذاته وهويته. جيل لا يتذكّر ما قبل غوغل أو فيسبوك أو يوتيوب، ويستهلك المعرفة عبر الصورة والفيديو والهاشتاغ أكثر مما يفعل عبر الكتب والخطب الطويلة.
 
إنه جيل يتميّز بحساسية خاصة تجاه القضايا الكونية مثل المناخ، والمساواة، والحريات الفردية، وحقوق الإنسان. وهو يميل إلى التمرّد على الأشكال التقليدية للسياسة، كالأحزاب والنقابات، لكنه حاضر بقوة في المنصّات الرقمية، والحملات، والتظاهرات الافتراضية. في أوروبا وأمريكا مثلًا، كان هذا الجيل وراء موجات من التعبئة، من بينها "جيل المناخ" الذي قادته غريتا تونبرغ. جيل يستمد قوته من كثافته الرقمية، ويعبّر عن نفسه بلغة هجينة، عابرة للحدود.
 
أما في بلادنا، فقد وُلد هذا الجيل بين 1997 و2012 في سياق خاص: حلم الانتقال الديمقراطي الذي بدأ مع تجربة التناوب التوافقي سنة 1998، وتكرّس مع اعتلاء الملك محمد السادس العرش في 1999 برؤية استراتيجية جديدة. فصدرت مدوّنة الأسرة، وانطلقت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، واشتغلت هيئة الإنصاف والمصالحة، ثم جاء دستور 2011 ليُعتبر منعطفًا تاريخيًا. وهكذا نشأ هذا الجيل بين خطاب الأمل وإكراهات الواقع، بين فضاء رقمي يتسع وينفتح، وفضاء سياسي ينكمش وينغلق.
 
إنّ ما يحدث الآن ليس مجرد فورة شبابية، بل حاجة عميقة للاعتراف. فهذا الجيل لا يُزعج لأنه يحتج، بل لأنه لا يُفهم. فبلادنا ما تزال تفتقر إلى دراسات سوسيولوجية وسيكولوجية جادة لفهم لغته وتطلعاته. فالجامعة، معظم أبحاثها ما تزال أسيرة العناوين التقليدية: "الشباب والمخدرات"، "الشباب والجنس"، "انحراف الشباب"، "الشباب والدين". أما مؤسساتنا السياسية، فقد أكدت في أكثر من محطة عجزها عن ابتكار خطاب يقنع هذه الفئة ويمنحها معنى للمشاركة.
 
إنّ مواجهة هذا الجيل باللامبالاة لن تؤدي إلا إلى تعميق الهوّة. والمطلوب هو جهد استثنائي للفهم، عبر تشجيع الحوار في الجامعات والمدارس العليا، وخلق فضاءات تستوعب الاختلاف وتفجّر طاقات أكثر من مليون ونصف طالب، مع التفكير في مسارات للمليون والنصف الآخر من الشباب الذين لا هم في مقاعد الدراسة ولا في سوق العمل.
 
فبلادنا في حاجة إلى سياسات جديدة، تجعل هؤلاء الشباب جزءًا من مستقبل الوطن، لا عبئًا عليه ولا طاقةً مهدورة.
 
وذلك هو سؤال السياسة والمجتمع.