أوصى عبد العزيز الخبشي، الكاتب والمحلل السياسي، ابنته دعاء، المنتمية لجيل Z بالتمسك بالحقوق، بالوعي، وبالاحتجاج السلمي، محذراً إياها من الانجرار وراء الشعارات الزائفة أو الولاءات الضيقة، وداعياً إياها للعمل من أجل مغرب يتسع للجميع على أساس المساواة والعدالة.
إلى ابنتي دعاء العزيزة..
يا زهرة عمري التي لم تتفتح بعد بكامل بهائها،
يا امتداد ما تبقى من روحي وقد أوشكت أن تذوب في تراب هذا الوطن..
أكتب إليك وصيتي هذه وأنا أعلم أن ساعتي تقترب، وأنني سأغادر هذا العالم الذي خبرت مكره وقسوته وأسراره، لأترك لكِ حمل الأمانة التي لم أستطع أن أؤديها كاملة.
إنني لا أورّثك مالا ولا جاها ولا عقارا، وإنما أورّثك الكلمة والوصية والموقف، فهي رأس مال الفقراء والمقهورين، وهي الإرث الحقيقي الذي يصمد أمام تقلبات الزمن.
أوصيك يا ابنتي أن تنهضي من أجل حقوقك، لا من أجل أي أحد غيرك.
لا تنتظري أن يتكفل غيرك بترجمة أحلامك إلى واقع، فالمستقبل يصنعه من يمد يده إليه بشجاعة وبسالة، وأنت من جيل لا يعرف المستحيل. جيلكم يا ابنتي، جيل Z، خرج إلى الشارع، رفع صوته وصرخ بما كان آباؤكم يتهامسون به خوفاً. لقد كسرتم جدار الصمت، وأعدتم للكرامة معناها، وأدركتم أن الحرية لا توهب، بل تُنتزع انتزاعا، لكن دون عنف، ودون أن تنجرّوا إلى هاوية الحقد أو ردود الفعل التي لا تخدم إلا أعداءكم.
يا ابنتي،
لا تسمحي لأحد أن يجرّك إلى خندق سياسي ضيق، أو أن يحشرك في خدمة أجندة حزبية أو إيديولوجية، سواء كانت داخلية أو خارجية. واعملي من أجل حقوقك وحقوق من يحيط بك، لكن باستقلالية فكرية ونقاء سريرة. لا تنخدعي بالشعارات البراقة، فكم من شعارات رُفعت باسم الشعب ثم تحولت إلى قيود تكبّل الشعب نفسه.
اعلمي أن الدستور الذي تتزين به رفوف القوانين لا قيمة له إن لم يُترجم إلى فعل في الشارع، وفي المدرسة، وفي المستشفى، في القرية والمدينة، وفي كل تفاصيل حياة والناس. لذلك أوصيك أن تكوني من الذين يطالبون بالفعل لا بالوعود، بالجوهر لا بالقشور.
يا ابنتي،
النيوليبرالية التي حوّلت المغاربة إلى عبيد لربح حفنة من الأغنياء، ليست قدرا محتوما، إنها نظام قائم على الاستغلال والنهب والخصخصة والحرمان. أوصيك أن تقفي ضدها، لا بسلاح العنف، بل بسلاح الوعي والتنظيم والاحتجاج السلمي. إن حصار النيوليبرالية يبدأ من حصار الفساد والمفسدين أينما وجدوا، في الدولة أو في السوق أو في المؤسسات. أوصيك أن لا تخافي في ذلك لومة لائم، وأن ترفعي صوتك عالياً، فصوت الحق أقوى من قمع العساكر ومن صمت القوانين.
لكن، إياك ثم إياك أن تنسي أن الوطن أكبر من كل خلاف. إياك أن تسمحي لأحد أن يزرع في قلبك بذور الكراهية أو أن يحملك على اجترار ماضٍ أسود لم يكن لك فيه يد.
المغاربة يا ابنتي إخوة، وإن فرّقت بينهم الطبقات والمصالح والأيديولوجيات. وإذا أردتم بناء مغرب جديد، فلا تبنوه على أنقاض الأحقاد، بل على أرضية المساواة والعدالة والحرية.
أوصيك أن ترفعي علم الوطن، لا أعلام الطوائف والفِرَق، وأن تنظري إلى المستقبل لا إلى الماضي، فما مضى قد مضى، وما هو آتٍ هو ما يهم.
يا ابنتي،
لا أحد يمكن أن ينوب عنك في المطالبة بحقوقك. لا تثقي بالزعامات المصنوعة في كواليس السياسة ولا بالخطابات المنمقة التي تبيع الوهم. طريقك وحدك هو الذي يحدد مصيرك. كوني أنت الزعيمة لنفسك، والناطقة باسم آمالك، والحارسة لأحلامك. أنتِ جيل يملك الجرأة، لكن أوصيك أن تحصني هذه الجرأة بالحكمة، وأن توجهيها نحو البناء لا نحو الهدم، نحو التغيير السلمي لا نحو المواجهة العنيفة التي لا تحصد إلا الخسائر.
تذكري يا ابنتي أن مغرب الحرية والكرامة وحقوق الإنسان والمساواة لن يأتي بالهتاف فقط، بل بالعمل اليومي، بالضغط المستمر، بالمبادرات الخلاقة، بالتنظيم الواعي. وشاركي في كل ما يخدم الصالح العام، لا تتركي فراغا ليستغله المفسدون. كل خطوة صغيرة تخطينها في درب الإصلاح هي لبنة في بناء المغرب الجديد.
أوصيك يا ابنتي أن تناضلي من أجل مغرب يجد مكانته بين الأمم، مغرب لا يخجل أبناؤه من فقرهم ولا من أميتهم، مغرب يفتخر بمدارسه وبجامعاته، وبمستشفياته وبمؤسساته، مغرب لا يُقصي أحدا، لا رجلا ولا امرأة، لا أمازيغيا ولا عربيا ولا يهوديا ولا حسانيا ولا أندلسيا. لا مسلما ولا غير مسلم. مغرب يتسع للجميع ويُقيم العدل بين الجميع.
اعلمي يا ابنتي أن الأوطان لا تبنى بالكراهية ولا بالتخوين، وإنما بالوفاء والصدق والعطاء. حبي للوطن لم يمنعني من أن أنتقده وأرفض ما فيه من ظلم، بل على العكس، لأنني أحببت الوطن عارضت الطغيان فيه. فافهمي أن النقد ليس خيانة، بل هو عين الوطنية، وأن السكوت عن الظلم هو الخيانة الحقيقية.
أوصيك أن تواصلي المسيرة حيث توقفتُ أنا وأبناء جيلي. نحن تعبنا من الركض وراء سراب الديمقراطية، لكنكم أنتم تملكون النفس الطويل والإرادة الصلبة لتترجموا ما فشلنا فيه. لا تتراجعي، ولا تستسلمي، ولا تبيعي صوتك ولا كرامتك. فالطريق طويل وملغوم، لكنه طريقك الوحيد نحو غدٍ أفضل.
ها أنا أودعك بهذه الكلمات، أضع بين يديك وصيتي الأخيرة: أن تناضلي من أجل حقوقك وحقوق كل المغاربة، لا بالعنف بل بالسلم، لا بالأحقاد بل بالحب، لا بالانغلاق بل بالانفتاح، لا بالانبطاح بل بالكرامة. كوني أنت، لا نسخة عن أحد، ولا تابعة لأحد. واذكري دوما أن حريتك وكرامتك هما وصيتي وديْني عندك.
قد يوارى جسدي التراب، لكني أؤمن أن صوتي سيبقى يتردد فيك: امضِ يا ابنتي، ولا تخافي، فالمستقبل لكِ، والوطن يحتاجك، وأنتِ قادرة على أن تمنحيه ما يستحق.
- عبد العزيز الخبشي