جميل جدًّا أن نعيش لنرى شبابًا يعشقون الوطن، ويفكرون في مستقبل يليق بهم وبأجيال تنتظر استدامة في الرؤى والتغيير. وجميل أن تتحطم الصور النمطية حول اهتمامات شباب قيل عنهم إنهم حبيسو شاشات الهواتف ومواقع التواصل في رداءة اختيارات تصب في التفاهة والابتذال. والأجمل أن نلتحم جميعًا حول حق الجميع في حرية التعبير وإبداء الآراء، والأروع أن تكون المطالب مشروعة بتجويد التعليم وضمان الحق في الصحة، ومحاربة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة.ولا يجوز لعاقل، ومهما علا حسه الوطني في ضمان السلم واستتباب الأمن، أن يحرم من يرى ضرورة في التغيير من التعبير عن رأيه ومناقشة السياسات العمومية.
بل إن الوطنية تقتضي الإسهام والمشاركة في بناء وتقويم كل الاستراتيجيات الرامية إلى تحقيق التنمية الشاملة، بخطى تضمن العدالة الاجتماعية والمجالية وتكافؤ المسارات نحو أهداف تعود على الجميع، دون إقصاء، بالنفع والرفاه.
لكن، هل تحقيق المطالب يقتضي بالضرورة تخريب المشاريع القائمة؟
وهل اختيار وقت الاحتجاج قبيل تنظيم محفل رياضي إقليمي جاء عارضًا وعرضيًّا دون توجيهات أجنبية؟
وهل النظر من زاوية إصلاح قطاع الخدمات يقتضي التضحية بالقطاع الاستثماري؟
وهل قطع الطريق السيار دليل على احتجاجات سلمية؟
وهل قمع الآراء في مواقع التواصل الاجتماعي يختلف في شيء عن قمعها في الشوارع وساحات الاحتجاج؟
وهل سياسة "معنا أو ضدنا" تخدم مطالبنا وتوحد آراءنا، أم هي انعكاس لصور قمع مبطن باسم حرية لا تقبل النقاش؟قبل سنة أو أكثر، خرج أساتذة التعليم في احتجاج كان لوقعه على التعليم أسوأ المشاهد وأبشعها بعد أن تجاوز الإضراب ثلاثة أشهر، وبقي أبناء الشعب دون دراسة ودون حق في التعليم.
وكان المشهد مميتًا للأمل في التغيير بعد أن أُغلقت النوافذ والأبواب، وقيل عن الموضوع إنه احتجاج فئوي لا يعني إلا من رفض مقترحات الوزير المعني بالقطاع.
وفي الوقت نفسه، وبتزامن قريب، خرج الممرضون والممرضات في احتجاج مفعم بمطالب مشروعة هدفها التمكين من حقوق تسهم في بناء الإنسان كما قيل ويقال، إذ لا يستقيم بناء المستشفى والأطقم البشرية في خصاص أو في اضطهاد.
كان الموضوع في كلا الإضرابين هو التعليم والصحة. ولم نعبر عن سخطنا إلا ببعض الآراء المتناثرة هنا أو هناك، ولم نقدّر آنذاك آثار ذلك وما تكبده المرتفقون من أضرار.الموضوع الآن يسائل السياق: ما الجديد الذي حدث حتى نختار وقت ارتقاب تنظيم محفل رياضي دولي؟ لم يكن الأمر متعلّقًا بالتقدم بملف ترشيح حتى يصح الرفض بالقول إن البناء يقتضي التوجه صوب البشر قبل الحجر. ولم يكن الموضوع أيضًا استفتاءً حول قبول التنظيم أو رفضه، لأنه جاء متأخرًا في الزمن بعد أن صفق الجميع مرحّبين بالفكرة ومبناها.
اليوم يطرح سؤال بإلحاح: ما فائدة هدم المشاريع الاستثمارية لخدمة المشاريع الاجتماعية؟ وهل يستقيم هدر ما بُني ويُبنى كي يصح مسار المطالبة بالحق في التعليم والصحة أو المطالبة بالمحاسبة، وهي كلها حقوق دستورية لا يُقبل من أي كان رفض طرحها أو المطالبة بها؟ لكن ما يدعو للاستغراب هو كيف نحكم الآن، وليس قبل الآن، بأن تنظيم المونديال أو كأس الأمم الأفريقية مضيعة للوقت والمال؟ ولماذا في هذا الزمن بالذات؟ وما هو السياق الذي يفتح باب هذا الجدل؟ المشاريع التي تهافتت عليها دول أخرى وظفرنا نحن بالفوز بتنظيمها لم تكن حديثة العهد، وليس في أمرها جديد يذكر، إلا أننا اقتربنا من دجنبر 2025 الذي ينتظره أعداء وحدتنا الترابية ليقولوا ما يرضيهم ولا يرضينا. وكأننا نسهم، من حيث لا ندري، في إطعام أفواههم بشماتة تطفئ حقدًا يزداد كلما تقدمنا خطوة نحو إنجاح الحدث وما يليه.تنظيم المحافل الرياضية بالنسبة لدولة سياحية هو مدخل مهم للتعريف بمعالمنا وثقافتنا وما تزخر به طبيعتنا، ولجلب السياح والعملة الصعبة. وتنظيم هذه المحافل فرصة لتوفير مناصب عمل مهمة في قطاعات عامة وخاصة، سواء تلك المرتبطة بالدعاية والإعلان أو بالأشغال العمومية أو بقطاع التغذية والمشروبات أو الملابس الرياضية، وقطاع الإعلام ومكاتب الصرف والخدمات المالية، وقطاع العقارات والترفيه والفنادق المختلفة، وقطاع التكنولوجيا، وشركات تنظيم الملتقيات الرياضية. وحين تتوفر فرص الاستثمار للمقاولات، يزداد دخلها ويزداد إسهامها في ميزانية الدولة عن طريق الضرائب.ولا مجال أنسب من الآن لبسط مخاوف المحاباة والمحسوبية في توزيع الأدوار والمهام، أو المساس بشفافية الصفقات العمومية التي قد تكون سببًا في هدم الأهداف المتوخاة من المشاريع الاستثمارية أكانت في الرياضة أو الطاقة أو الصناعة أو العقار أو السلع أو الخدمات. هي مخاوف مشروعة، وتقتضي مطالب مفروضة في ضبط الآليات القانونية، وبسط الرقابة القبلية، وفتح باب المحاسبة الجادة؛ لا في هدم المشروع أو المشاريع التنموية تحت قبعة الخوف من انحراف سلوك المسؤول أو تقليد تجارب لم تنجح في مكان آخر.وحين تتضح الرؤى، وندرك يقينًا أنه لا رفاه اجتماعيًّا ولا تطورًا حضاريًّا قد يستقيم يومًا ونحن نحصر أنفسنا في سياسة إنفاق على خدمات اجتماعية لا محيد عن المطالبة بها، لكن دون إقصاء لمداخيل تمويلها وإنعاشها بما يليق بنا وبأبنائنا من بعدنا، جيلًا بعد جيل يحمل همًّا يزداد ثقلًا بما تعرفه البيئة من سوء استغلال وندرة ماء تهدد الأمن الغذائي، وتلوث يعبث بالأمن الصحي، ومخاطر مهلكة للأمن البشري.كل هذا، ولنتذكر أننا قد نخرج للاحتجاج بحسن نية، لكن هناك من يؤثر في حماسنا بسوء لا تُحمد عواقبه.
فلتكن مطالبنا مشروعة، لكن بوسائل وآليات مشروعة أيضًا.