قراءة أولية تحليلية: سياق متعدد الأبعاد
نعتقد أن هذه الظاهرة تتطلب أدوات تحليلية متعددة، تجمع بين العديد من حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية لفهم أبعادها الرمزية والاجتماعية والسياسية، واستيعاب جدلية العلاقة بين الشباب والدولة. وفي هذه المقالة الأولية، سنقتصر على قراءة هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة من بعض منطلقات سوسيولوجيا بيير بورديو وألان تورين، مستحضرين في الوقت ذاته شذرات من التراث الأدبي لنجيب محفوظ من خلال روايته "القاهرة الجديدة"، وفي الأخير سنعرج على رؤية "الطريق الرابع" لما تحمله من عناصر لفهم بعض محطات تحولاتنا الراهنة.
جيل Z المغربي: صوت الاحتجاج والتحولات الاجتماعية
أمس، خرج جيل جديد إلى الشوارع المغربية، محتجًا بصوت يعكس استياءه من سياسات لا تلبي مطالبه الاجتماعية، مؤكّدًا نبض المجتمع وتحولات آماله وطموحاته. هذه التحركات ليست مجرد احتجاجات عابرة، بل دينامية اجتماعية جديدة انطلقت من أروقة المنصات الرقمية، حاملة صوت شباب يرى أن السياسات القائمة لا تستجيب لاحتياجاته، وتجسد آمال وطموحات جيل Z، المولود بين أواخر التسعينات وأوائل الألفية الثانية، والذي أصبح اليوم ظاهرة اجتماعية وثقافية فريدة، متميزة بخصائص معرفية وسلوكية جديدة وقيم متجذرة في العالم الرقمي.
هذا الجيل نشأ في بيئة رقمية تتداخل فيها شبكات التواصل الاجتماعي، والتقنيات الحديثة، والخوارزميات مع عملية التكوين الاجتماعي والهوياتي. ومن هنا، يسعى جيل Z للتعبير عن ذاته والحصول على الاعتراف بها بعيدًا عن الوسائط التقليدية، مظهراً طريقة مختلفة لفهم العالم والتفاعل مع السلطة والمؤسسات السياسية والاجتماعية.
جيل Z بين السوسيولوجيا والواقع الاجتماعي
من منظور سوسيولوجي، يمثل جيل Z حقلًا جديدًا للصراع الرمزي والاجتماعي. فهو يمتلك قدرة عالية على التعبير الرقمي، تشكيل الرأي العام، وممارسة الاحتجاج خارج القنوات التقليدية للأحزاب والنقابات. وفي الوقت نفسه، يواجه تحديات كبيرة، تتمثل في البطالة، التفاوت الاجتماعي، والأزمات المؤسساتية التي تؤثر على شعوره بالعدالة والاعتراف.
سوسيولوجيا جيل Z تهدف إلى دراسة هذه الديناميات وتحليل صراعاتها وانعكاساتها على البنية الاجتماعية والسياسية، مع التركيز على التحولات في أنماط المواطنة والتغيرات الثقافية، وأشكال الاحتجاج الجديدة، وكذلك العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الهيئات التقليدية والرقمية التي تشكل السلوك الجمعي لهذا الجيل وتمثلاته الاجتماعية والسياسية.
بورديو، تورين ونجيب محفوظ
بورديو: الحقل والرأسمال الرمزي
وفقًا لبورديو، ينظم المجتمع عبر حقول متنافسة، لكل منها قواعده ورهاناته. ويحتل جيل Z موقعًا جديدًا في الحقل السياسي والثقافي المغربي، معتمداً على "الرأسمال الرمزي الرقمي": القدرة على التعبئة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، نشر الصور والفيديوهات، وصناعة الرأي العام، بعيدًا عن المؤسسات التقليدية. احتجاجاتهم تعكس صراعًا على الشرعية والاعتراف، بين جيل يسعى لإعادة تعريف قواعد اللعبة، ومؤسسات ما زالت متمسكة بالمنظومات القديمة.
تورين: الحركات الاجتماعية والفاعلية التاريخية
من منظور تورين، الاحتجاجات ليست مجرد ردود فعل عابرة، بل حركات اجتماعية تسعى لإنتاج فاعلية تاريخية مستقلة. ويمتاز جيل Z بلامركزية قيادته واستقلالية شبكاته الرقمية، معيدًا بذلك تشكيل آليات التأثير الاجتماعي والسياسي. فاحتجاجهم ليس فقط للمطالبة بحقوق مادية، بل لإرساء معنى جماعي جديد للمواطنة والتمثيل.
نجيب محفوظ و"القاهرة الجديدة"
رواية محفوظ تقدم صورة جيلية مماثلة: شباب ممزق بين المبادئ والانتهازية، بين الطموح الأخلاقي والواقع الفاسد. المدينة في الرواية تكشف التناقضات بين الحداثة واللامساواة، بين الخطاب الرسمي والواقع اليومي، ما يعكس أزمة التمثلات والاعتراف التي يعيشها جيل اليوم. ويمكن إسقاط هذا المنظور على جيل Z المغربي، في صراعه بين طموح التغيير والانخراط في منظومة غير عادلة، ورغبته في العدالة والكرامة وسط أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
خصائص احتجاجات جيل Z المغربي
1. طابع مفاجئ وغير متوقع، حتى بالنسبة للسلطة.
2. عفوية ولامركزية، بعيدًا عن التنظيم الحزبي التقليدي، ما يعكس استقلالية الجيل في الفضاء الرقمي والميداني.
3. مطالب براغماتية مرتبطة بالحقوق الأساسية: التعليم، الصحة، الشغل، والعدالة الاجتماعية.
4. قدرة تعبئة عالية باستخدام أدوات رقمية، واستغلال الخوارزميات لنشر خطاب احتجاجي جماهيري بسرعة.
5. قيادة مبهمة، لا ترتبط بالوجوه التقليدية للاحتجاجات، ما يعكس تحرر هذا الجيل من آليات السلطة القديمة.
هذه الاحتجاجات ليست مجرد ضغط اجتماعي لحظي، بل إعادة إنتاج أزمة تاريخية، تمثل صراع جيل جديد على المكانة والاعتراف داخل الحقل الاجتماعي والسياسي، بما يتوافق مع قراءات بورديو وتورين ونجيب محفوظ.
"الطريق الرابع": أفق بديل
رؤية "الطريق الرابع" توفر إطارًا عمليًا لاستيعاب هذه الديناميات:
1. تجاوز الطرق التقليدية (السلطوية، الأحزاب الكلاسيكية، الشعبوية) نحو مشروع جماعي شامل.
2. تمكين الشباب من المشاركة في صناعة السياسات وبناء فضاءات للتفاعل المدني والثقافي.
3. ربط الفضاءات الرقمية بالعمل الميداني، وتحويل الاحتجاج الرمزي والثقافي إلى طاقة بنّاءة لمغرب آخر ممكن، يقوم على الكرامة، الحرية، والعدالة الاجتماعية والمساواة.
خاتمة
احتجاجات جيل Z المغربي ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل لحظة مفصلية في التاريخ الاجتماعي والسياسي للبلاد. الجمع بين السوسيولوجيا (بورديو وتورين) والأدب (نجيب محفوظ)، مع الرؤية العملية للطريق الرابع، يسمح بفهم متكامل: الجيل الجديد يقف أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الدولة والمواطنة، وتحويل الأزمة إلى مشروع بنّاء على أسس العدالة والاعتراف والتفاعل الحضاري.
المصطفى المريزق، أستاذ باحث بجامعة مولاي إسماعيل- مكناس
رئيس الجامعة الشعبية المغربية