حاولنا في مقالنا السابق المنشور في (أنفاس بريس 16 شتنبر 2025) إبراز أهمية بل وضرورة الاستحضار الدائم للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يذهب ضحيتها السكان المدنيون الفلسطينيون في كامل الأرض الفلسطينية المحتلة. وتشاء الصدف أن يتزامن نشر المقال إياه، مع تقديم لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة (المعنية بضمان احترام القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في الأرض الفلسطينية المحتلة- بما فيها القدس الشرقية -وفي إسرائيل) لتقريرها، وما خلصت إليه من استنتاجات وتوصيات ختامية في 16 شتنبر 2025 خلال الدورة الستين لمجلس حقوق الإنسان بجنبف ، وكأن مضمون هذا التقرير وما يزخر به من وقائع مفصلة وشهادات موثقة و أدلة وحجج دامغة ،تم تقديمه في الأوان المناسب ليؤكد- لمن لا زال يحتاج الى تأكيد -، أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية للفلسطينيين في نطاق الحرب التي شنتها على قطاع غزة منذ 08 أكتوبر 2023.
وحري بنا في البداية، رفعا لأي لبس لدى القارئ حول طبيعة لجنة التحقيق الدولية المستقلة وإزالة الغموض حول ولايتها، التذكير أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة هو من قرر إنشاء هذه اللجنة في 07 مايو 2021أثناء عقده لدورة استثنائية بشأن" الحالة الخطيرة لحقوق الانسان في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية ". واعتمد المجلس خلال هذه الدورة قرارا بعنوان " ضمان احترام القانون الدولي لحقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وفي إسرائيل" .و بموجب هذا القرار أنشأ مجلس حقوق الانسان" لجنة تحقيق دولية مستقلة مستمرة للتحقيق داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة ، بما فيها القدس الشرقية وداخل إسرائيل في جميع الانتهاكات المزعومة للقانون الدولي الإنساني وجميع الانتهاكات والتجاوزات المزعومة للقانون الدولي لحقوق الانسان التي سبقة 13 ابريل 2021 ووقعت منذ هذا التاريخ.."
وعهد القرار الى اللجنة أيضا " التحقيق في جميع الأسباب الجذرية الكامنة وراء التوترات المتكررة وعدم الاستقرار وإطالة أمد النزاع، بما في ذلك التمييز والقمع المنهجيان على أساس الهوية الوطنية أو الإثنية أو العرقية او الدينية". وكلفت هذه اللجنة بتقديم تقرير سنوي عن اشغالها الرئيسية إلى مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة بدءا من شهر يونيو / وشتنبر2022.
وأما بخصوص نطاق ولايتها، وتجنبا للإطالة في عرض مفصل لجميع المهام التي تضطلع بها، نكتفي بالإشارة إلى أن اختصاصاتها تشمل عموما، التحقيق في مزاعم الانتهاكات والتجاوزات للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وتحديد الوقائع والظروف التي قد ترقى الى مستوى هذه الانتهاكات والوقوق على الجرائم المرتكبة. وتضطلع اللجنة أيضا، بمهام جمع وتوحيد وتحليل الأدلة على الجرائم المرتكبة، وتسجيل وحفظ جميع المعلومات والوثائق والأدلة وفقا لمعايير القانون الدولي وبقصد أمكانية قبولها في الإجراءات القانونية. بالإضافة إلى توثيق المعلومات والأدلة ذات الصلة، والتحقق منها عن طريق العمل الميداني والتعاون مع الأجهزة القضائية والأجهزة الأخرى. والعمل – ما أمكن – على تحديد هوية المسؤولين عن ارتكاب الانتهاكات بغية ضمان مساءلتهم، وتقديم توصيات بشأن تدابير المساءلة بهدف إنهاء الإفلات من العقاب وضمان المساءلة القانونية بما فيها المسؤولية الجنائية الفردية ومسؤولية القادة، وتمكين الضحايا من الوصول الى العدالة.
ولعل ما ينبغي التنبيه اليه في هذا الصدد أمرين مهمين، الأول منهما هو الطبيعة المستمرة للتحقيق الذي أسند الى هذه اللجنة، حيث أنها تقدم بشكل مستمر تقريرا سنويا عن حصيلتها ومنجزها ابتداء من عام 2022، ويعتبر تقرير 16 شتنبر 2025 هو الثالث منذ إنشاء اللجنة. والأمر الثاني يكمن في أنها – رغم تفويضها الواسع بجمع وتوحيد وتحليل الأدلة على الجرائم المرتكبة وتحديد المسؤولين عنها – فإنها ليست محكمة أو جهازا قضائيا – لكن ولايتها الواسعة تمكنها من العمل والتعاون مع آليات المساءلة القضائية الدولية والجهوية والوطنية وفقا للمتطلبات الأساسية للعدالة ولمعايير المحاكمة العادلة المقبولة دوليا. والجدير بالتنبيه أيضا، أن النتائج التي توصلت اليها اللجنة لا تمثل الوقائع والحقائق الوحيدة المتصلة بتحليل جريمة الإبادة الجماعية في غزة، فالأحداث والوقائع والممارسات والتجاوزات التي رصدتها اللجنة وضمنتها في تقريرها لا تمثل جردا شاملا ووافيا للانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل في غزة خلال الفترة الزمنية التي يشملها التقرير (07 أكتوبر 2023 إلى 31 يوليو 2025)، كما ان النطاق الجغرافي للتقرير ينحصر في قطاع غزة غير أن هذا التحديد لا يستبعد إمكانية تمديد التحقيق ليشمل أي فترات زمنية ومناطق جغرافية أخرى ، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر الضفة الغربية و القدس الشرقية .
وعلى الرغم من أن القرار المنشئ للجنة الدولية المستقلة فوض لها ولاية التحقيق في الميدان في الانتهاكات التي ارتكبت داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، إلا ان عدة مصادر متقاطعة ومتطابقة أكدت عدم تعاون السلطات الإسرائيلية على النحو المطلوب مع اللجنة وفريقها ولم ترخص لها بصورة منهجية الاضطلاع بولايتها في جميع المناطق المعنية.
وتتألف اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق من ثلاث خبراء في حقوق الإنسان والقانون الدولي المشهود لهم بالكفاءة العالية والاستقلالية الذين عينهم رئيس مجلس حقوق الإنسان. وهي تضم حاليا القاضية الجنوب أفريقية "نافانيثيم بيلاي" رئيسة للجنة (مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ما بين 2008 و2014 وقاضية ورئيسة سابقة للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا)، والخبير الهندي " ميلون كوثاري " المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة حول السكن اللائق واستاذ زائر في العديد من الجامعات العالمية، والأكاديمي الأسترالي والخبير في حقوق الإنسان "كريس سيدوتي".
وبديهي أن الحيز المحدود لهذا المقال لا يسعف للقيام بقراءة تحليلية شاملة ووافية لمحتوى تقرير اللجنة الذي يضم 72 صفحة موثقة بإحالات طويلة الى المراجع والنصوص القانونية الدولية الغزيرة والشهادات الكثيرة والاجتهادات القضائية الدولية، مما سنضطر معه إلى الإجمال والاختزال حرصا على تيسير الأمر على القارئ غير المتخصص بالضرورة، وسعيا الى تعميم الاستفادة من هذا التقرير المهم وخلاصاته وتوصياته في سياق النقاش المحتدم على الصعيد الدولي حول الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة.
أولا – الأفعال المكونة لجريمة الإبادة الجماعية في غزة
اعتمدت اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق بشأن الأرض الفلسطينية المحتلة التي ترأسها السيدة " نافي بيلاي" (سوف نستعمل للاختصار تعبير اللجنة) في تحليلها القانوني لسلوك إسرائيل في غزة، بشكل أساسي على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، ولاسيما منها المادة الثانية التي تعرف الإبادة الجماعية بأنها أيا من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه. وتشمل الأفعال المحظورة:
-أ) قتل أعضاء من الجماعة.
ب) إلحاق ضرر خطير بالسلامة البدنية أو العقلية لأعضاء من الجماعة.
ج) إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.
د) فرض تدابير تهدف الى الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
ه) نقل أطفال من الجماعة، قسرا، إلى جماعة أخرى.
واعتبرت اللجنة أن إسرائيل ارتكبت أربعة أفعال من الخمسة المحظورة بموجب الاتفاقية، وبشكل منهجي ومتعمد وليس مجرد نتائج عرضية «للنزاع المسلح"، بينما لم تتوفر لديها في الوقت الحالي الأدلة التي تثبت ارتكاب الفعل الخامس الذي يتعلق بالنقل القسري للأطفال الى جماعة أخرى.
وسوف نتطرق بتركيز شديد إلى العناصر الواقعية والمعلومات التي جمعتها اللجنة والانتهاكات التي رصدتها والأدلة التي توفرت لديها، بخصوص ثبوت ارتكاب الأفعال الأربعة التي ينطبق عليها وصف جرائم الإبادة الجماعية، معتمدين في هذا المسعى على مقاربة تحليلية للعناصر الأساسية والمهيكلة لتقرير لجنة التحقيق.
1-القتل العمدي لأفراد من الجماعة
بدأت اللجنة بتوضيح المدلول القانوني لجريمة القتل العمدي لأعضاء من الجماعة، واعتبرت ان المقصود به هو " التسبب في الوفاة"، مؤكدة على تطابق الشروط المتعلقة بفعل القتل كجريمة إبادة جماعية مع الشروط الخاصة بالقتل العمد كجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، حيث لا يشترط عدد أدنى للضحايا أو طريقة أو وسيلة محددة للقتل لكي يعتبر الفعل جريمة إبادة جماعية.
فقد نفذت عمليات قتل المدنيين الفلسطينيين على نطاق واسع وعلى مدى فترة زمنية طويلة وفي مناطق جغرافية متعددة، كما تم استهداف الضحايا ليس بصفتهم كأفراد، بل بصفة جماعية بسبب هويتهم الفلسطينية. فقد كانت السلطات الإسرائيلية على علم أن عملياتها العسكرية واستراتيجياتها الحربية منذ 7 أكتوبر 2023 ستؤدي الى قتل أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين ، واستمرت رغم ذلك في استعمال نفس الوسائل والأساليب ،مما يدل على وجود النية في قتل أكبر عدد ممكن منهم بمن فيهم الأطفال .بالإضافة إلى فرض ظروف معيشية لا تطاق ( منع دخول الأدوية والمساعدات الإنسانية ) بهدف تدمير السكان الفلسطينيين في غزة .وتم القتل العمدي والجماعي للفلسطينيين باستعمال ثلاث أساليب رئيسية ، القصف والغارات العنيفة لتدمير الأماكن المحمية بموجب القانون الدولي الإنساني (المباني السكنية للمدنيين و المدارس والمستشفيات والمرافق الطبية ...)، استهداف المدنيين اثناء عمليات الإخلاء والتهجير القسري من منطقة لأخرى ، وفرض ظروف معيشية قاتلة عن طريق الحصار ومنع وصول الغذاء والماء والمساعدات الطبية .
وبناء على ما توفر للجنة من أدلة قاطعة على الوقائع السابقة وتواريخ وأماكن حصولها وعدد ضحاياها، خلصت إلى أن العناصر والأركان المادية والمعنوية لجريمة " قتل أعضاء من الجماعة "وفقا للمادة الثانية (أ) من اتفاقية الإبادة الجماعية قد تحققت وتأكدت في الأفعال التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة.
2- إلحاق أذى (ضرر) جسدي أو عقلي خطير بأعضاء من الجماعة
ينطبق هذا الفعل على نوعين من الأضرار التي يمكن أن تصيب الفرد، الضرر الجسدي الذي يؤدي الى شكل من أشكال الإصابة البدنية الخطيرة، والضرر العقلي الذي يشمل مختلف الاضطرابات الذهنية والنفسية التي تؤثر على التوازن العقلي للفرد. ويجب أن تبلغ طبيعة وحجم هذه الاضرار درجة معينة من الخطورة من شأنها التأثير على استمرار الجماعة في الوجود والتهديد بتدميرها المادي أو البيولوجي، كليا او جزئيا.
وعلى أساس هذه المعايير، أكدت اللجنة أن القوات الإسرائيلية ارتكبت منذ 7 أكتوبر 2023 مجموعة من الانتهاكات التي ألحقت أضرارا جسدية ونفسية خطيرة بالفلسطينيين في غزة. كما أفادت أنه منذ 30 يونيو 2025، تأكدت من بلوغ عدد المصابين الذين تم إحصاؤهم: 146ألف و269 شخصا، يعاني عدد كبير منهم من أضرار جسدية طويلة الأمد بما في ذلك حالات بتر الأطراف. وقد تفاقمت هذه الإصابات الجسدية بسبب نقص الرعاية الطبية أو الاستحالة الكاملة للوصول إليها، نتيجة لتوقف المرافق الطبية عن تقديم الرعاية الضرورية أو بسبب السياسة المنهجية لإسرائيل لتدمير النظام الصحي في غزة، بالإضافة الى الحصار الكامل المفروض على دخول المساعدات الإنسانية. وأكدت اللجنة في تقريرها أن الأضرار التي تمكنت من توثيقها تندرج ضمن المقصود ب "الضرر الجسيم" بموجب القانون الدولي، فضلا على أن القوات الإسرائيلية ارتكبت أعمالا تعتبر" تعذيبا" طبقا للقانون الدولي، ومارست الاغتصاب والعنف الجنسي وضروبا أخرى من المعاملات اللاإنسانية والقاسية والمهينة بحق المعتقلين الفلسطينيين، مما ألحق أضرارا جسدية ونفسية شديدة بالضحايا. وتعرض الأطفال الذين فقدوا أفرادا من أسرهم في هجمات الجيش الإسرائيلي أو الذين فصلوا عن أسرهم جراء عمليات الإخلاء المتكرر والتهجير القسري، (تعرضوا) لصدمات نفسية عميقة، تفاقمت بسبب الرعب والشعور بعدم الأمان وبالخوف الشديد من مصيرهم، ويعانون من أضرار نفسية طويلة الأمد.
سلطت اللجنة الضوء أيضا على "العنف الإنجابي" الذي تعرضت له النساء الفلسطينيات الحوامل والنساء في الفترة اللاحقة للولادة والنساء المرضعات، الذي الحق بهن أضرارا جسدية ونفسية جسيمة على نطاق غير مسبوق. ذلك ان الاستهداف والتدمير المتعمد للبنية التحتية للرعاية الصحية الجنسية والإنجابية من قبل الجيش الإسرائيلي، تسبب في تعريض النساء الفلسطينيات لأضرار خطيرة خاصة بالنوع الاجتماعي، تتعلق بالحمل والولادة والرضاعة والنظافة والكرامة ولأضرار نفسية شديدة على المدى القصير والطويل. واقتنعت اللجنة أيضا، أن العنف الجنسي والقائم على النوع الاجتماعي مورس بشكل منهجي وواسع النطاق وارتكب بأشكال متعددة منذ 7 أكتوبر 2023 ضد "أعضاء من المجموعة الفلسطينية " سواء منهم الإناث أو الذكور. وتشير اللجنة بهذا الخصوص، إلى إجبار النساء على خلع ملابسهن وحجابهن في الأماكن العامة وأمام الملأ وإخضاعهن لعمليات تفتيش جسدي مهين لكرامتهن، مما يعرض النساء والفتيات الفلسطينيات لأثر نفسي سلبي بالغ في بيئة اجتماعية تحكمها قواعد دينية وثقافية صارمة. يضاف الى ذلك ممارسة القوات الإسرائيلية للتحرش الجنسي وتصوير الرجال والشبان في أوضاع مهينة ومذلة أثناء تعرضهم لاعتداءات جنسية ونشر هذه المشاهد على الانترنيت.
وتأسيسا على مجموع الأدلة والشهادات التي وثقتها اللجنة بخصوص الانتهاكات المتعلقة بالفعل الثاني المكون لجريمة الإبادة الجماعية، خلصت إلى أن الركنين المادي والمعنوي لهذا الفعل المحدد في المادة الثانية (ب) من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها قد ثبت ارتكابه من قبل القوات الإسرائيلية ضد السكان المدنيين الفلسطينيين في غزة.
3- إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا
إن التدمير العمدي المادي الكلي او الجزئي لمجموعة محددة، لا يقصد به بالضرورة أن الأفعال المرتكبة يجب ان تتسبب فورا وفعليا في موت أعضاء هذه المجموعة، وإنما يجب أن تهدف هذه الأفعال في آخر المطاف إلى تدمير أعضاء هذه المجموعة والقضاء عليهم كليا او جزئيا. ومن بين الأفعال التي قد تندرج ضمن مكونات الإبادة الجماعية وفقا للمادة الثانية (ج) من اتفاقية 1948، الاغتصاب والعنف الجنسي والحرمان من الغذاء والماء ومن الولوج الى الخدمات الطبية وتلقي العلاجات الأساسية، والطرد المنهجي من المنازل السكنية وتدميرها، وغيرها من الممارسات التعسفية والعنيفة التي يكون الهدف منها فرض ظروف معيشية لا تطاق على أعضاء الجماعة، على نطاق واسع وطيلة مدة زمنية كافية لتحقيق التدمير الكلي او الجزئي للجماعة.
ويشترط ان يتوفر عنصر " القصد الجنائي أو النية الإجرامية" في ارتكاب هذه الأفعال لإحداث التدمير المادي لأعضاء الجماعة وليس التسبب في حالات وفاة عرضية. ويمكن إثبات توفر " القصد الجنائي "بالاعتماد على أدلة غير مباشرة تؤكد " الاحتمال المعقول والموضوعي بأن تؤدي هذه الظروف المعيشية القاسية الى التدمير المادي الجزئي للجماعة".
لقد قامت اللجنة بتحليل مفصل للظروف المعيشية المفروضة عمدا على الفلسطينيين في غزة، وتوصلت الى نتائج تؤكد ارتكاب القوات الإسرائيلية لمجموعة من الأفعال التي كان الهدف منها حرمان السكان المدنيين من الموارد الأساسية للبقاء (قطع إمدادات المياه والكهرباء والوقود، منع وصول المعدات الطبية والأدوية، تدمير البنية التحتية والمساكن الضرورية لإيواء المدنيين، استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، الغارات والقصف العشوائي لتجمعات السكان، التدمير العمدي للمنشئات الصحية في جميع أنحاء قطاع غزة ...). وبعد تقييم اللجنة لسلوك وممارسات القوات الإسرائيلية من وجهة القانون الدولي الإنساني، تكون لديها الاقتناع بثبوت ارتكاب جرائم ضد الإنسانية تتمثل في الإبادة الجزئية للسكان المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة بوسائل غير مباشرة من خلال إخضاعهم لظروف معيشية قاسية ولاإنسانية بقصد تدميرهم. وخلصت إلى أن الركنين المادي والمعنوي لفعل" إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا"، المنصوص عليه في المادة الثانية (ج) من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها قد ثبت ارتكابه من قبل القوات الإسرائيلية.
4- فرض تدابير تهدف إلى منع إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
توضح اللجنة بخصوص هذا الفعل أن إثبات ركنه المادي لا يشترط فيه ان تكون التدابير المفروضة جسدية بالضرورة، بل يمكن ان تأخذ طابعا نفسيا واجتماعيا أيضا. وتسوق مثالا على هذا النوع من التدابير (النفسية والاجتماعية) من خلال تلك التي تدفع أعضاء الجماعة بالتهديد والصدمات أو القوانين إلى عدم القدرة على الإنجاب أو اتخاذ قرار بعدم الإنجاب.
وفيما يتعلق بالركن المعنوي لهذا الفعل، يجب إثبات أن التدبير المتخذ كان القصد منه حرمان الضحية من القدرة ومن إمكانية الحمل والولادة. وبالتالي، ليس من الضروري إثبات اتخاذ قرارات مباشرة وصريحة للمنع الفعلي للولادات في الجماعة، طالما ثبت أن التدابير المفروضة التي تم اتخاذها كان الهدف والقصد منها هو منع الولادات.
في هذا الصدد، ورد في تقرير اللجنة أن غارات الجيش الإسرائيلي على المؤسسات الاستشفائية في قطاع غزة، بما فيها تلك التي تقدم الخدمات الطبية في مجال الصحة الجنسية والإنجابية قد أثرت على ما يناهز 545.000 ألف من النساء والفتيات الفلسطينيات في سن الإنجاب. وقد استهدفت الغارات المباشرة أقسام الولادة والأمومة في مستشفى الشفاء والمجمع الطبي ناصر في خان يونس والمستشفى الإماراتي للأمومة ومستشفى عودة ومستشفى الأقصى. وقد حققت اللجنة بشكل خاص في ظروف القصف الذي تعرض له مركز " البسمة" للتلقيح الاصطناعي في دجنبر 2023، باعتباره المركز الرئيسي للخصوبة والإنجاب في غزة. وتأكد من التحقيق تدمير نحو 4000جنين و1000 عينة من الحيوانات المنوية والبويضات غير المخصبة. بالإضافة إلى التدمير الذي تعرض له "البنك الوراثي " ومختبر علم الأجنة، مما أدى إلى الإتلاف الكامل للمواد التناسلية المخزنة فيهما.
وبناء على الأدلة التي توصلت اللجنة الى جمعها والشهادات التي وثقتها، خلصت الى أن الأركان المادية والمعنوية لفرض تدابير تهدف إلى منع إنجاب الأطفال داخل الجماعة عناصر قائمة وثابتة ضد قوات الجيش الإسرائيلي.
د. محمد العمارتي / أستاذ القانون الدولي بجامعة محمد الأول سابقا (يتبع)