في هذه الورقة الثقافية التي توثق لرحلة جريدة "أنفاس بريس" التاريخية والتراثية، حيث النبش والبحث في اقتفاء أثر الفروسية التقليدية، والكشف عن براعة سلاطين المغرب الأشداء والشجعان في الرماية وركوب الخيل، ـ في هذه الورقة ـ نسافر مع الباحث الأستاذ عبد الرحيم شراد على صهوة خيول فن ورياضة "التّْبَوْرِيدَةْ" باعتبارها تمظهرات للفروسية التقليدية المغربية.لقد اعتمد الأستاذ عبد الرحيم شراد في بحثه المتميز على مراجع تاريخية منها على سبيل المثال لا الحصر كتاب "رحلة الأسير مويط" ومهارة السلطان المولى إسماعيل في ركوب الخيل" ثم كتاب "الحلل البهية من ملوك الدولة العلوية"، وبعض القصص التاريخية، فضلا عن لوحات فنية لأجانب سلط من خلالها الضوء على مهارات وشجاعة سلاطين الدولة المغربية، وبعض سفرائهم الذين خلدوا أسمائهم في هذا الميدان مثل السفير المغربي محمد بن حدو أعطار الآسفي الذي أمتع أهالي مدينة لندن بألعاب الفروسية التقليدية بصيغة "الْفَرَّادِي".
تراث فن ورياضة "التّْبَوْرِيدَةْ" تمظهرات للفروسية التقليدية المغربية:
بينما يعتقد الكثير من الباحثين أن أول الرسوم واللوحات التي جسدت لنا مظاهر الفروسية التقليدية المغربية هي تلك التي رسمها الفنان "أوجين ديلاكروا" على عهد السلطان العلوي عبد الرحمان بن هشام، فإنه أرى على العكس من ذلك أن "أوجين ديلاكروا" قد رسم لنا مظاهر ألعاب التبوريدة فقط، والتي نعتبر أنها مجرد تمظهرات للفروسية التقليدية المغربية.
لا أدعي أنني أنفرد بهذا الرأي بل يشاطرني فيه كذلك صديقي الفارس والباحث الأستاذ عزيز بوشبيكة وهو بالمناسبة مقدم علفة الشرفاء أولاد السي عيسى بمنطقة أمزاب، والذي يرجع بدوره هذه المهارات الاستعراضية إلى أصولها الزناتية التي كانت أبرز تجلياتها في المغرب وفي الأندلس.
سفير السلطان العلوي مولاي إسماعيل بلندن كان من أقوى الفرسان وأشجعهم:
فهناك لوحة فنية قبل لوحات "أوجين ديلاكروا" تعود لعهد السلطان العلوي مولاي إسماعيل، وهي موجودة الآن بمتحف Chiswick House بلندن، وقد رسمها Godfrey Kneller، وهي تمثل السفير المغربي محمد بن حدو أعطار الآسفي الذي أرسله المولى إسماعيل سفيرا عند ملك انجلترا شارل الثاني لمدة ستة أشهر، وذلك من شهر دجنبر 1681 إلى 11 يناير 1682.
سفير يمتع أهالي مدينة لندن بألعاب الفروسية التقليدية بصيغة "الْفَرَّادِي"
عندما نتمعن جيدا في تفاصيل هذه اللوحة ونربطها بكل الأوصاف التي ذكرها "جون إفلين" وهو يتحدث عن هذا السفير المغربي، وعن إصراره أن يذهب لمقابلة ملك انجلترا بقصر "وايت هول" على صهوة حصان جامح لا يمتطيه إلا أشد الفرسان وأقواهم، حتى أن الناس خرجوا لمشاهدته وهو يمسك بزمام جواده في منتهى النّبل، وغاية الشّجاعة، وقد كانوا أشد إعجابا وانبهارا بفروسيته، وهو يخرج كل يوم إلى "هايد بارك" حيث كان يمتع أهالي مدينة لندن بألعاب الفروسية التقليدية على صيغة "الفرَّادي" مستعملا الرمح. هذه التقنيات والمهارات التي تعود للأصول الزناتية والتي ستشكل بعد هذه النواة الأولى لـ الَّلعب بالمكحلة والتي يستمد منها فرسان التبوريدة اليوم جل تقنيات وكيفيات اللعب المتداولة.
من كتاب "الحلل البهية من ملوك الدولة العلوية":
إن انشغالي بالفروسية المغربية التقليدية، جعلني أقتفي أثرها عبر سير السلاطين والملوك الذين تعاقبوا على حكم المغرب. وفي هذا الباب يمكن أن أذكر السلطان العلوي مولاي رشيد المزداد بسجلماسة سنة 1631 والمتوفى بمراكش يوم 9 أبريل 1672، حيث يخبرنا المؤرخ محمد بن محمد بن مصطفى المشرفي في كتابه "الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية" عن سبب وفاة المولى الرشيد التي صادفت يوم ثاني عيد الأضحى، فيقول "أن هذا السلطان كان راكبا على فرس جموح فأجراه، فلم يملك عنانه إلى أن قصد به شجرة نارنج، فهشم غصن منها رأسه، فكانت فيه منيته". ولما احتضر سمعه بعض الأشراف من أقاربه يقول: "سبحانك يا من لا يزال ملكه، عبدك الرشيد زال ملكه ".
من قصص شجاعة وفروسية السلطان المولى الرشيد:
إن هذه الواقعة قضاء وقدر، غير أنها بالنسبة لنا لا تنفي شجاعة وفروسية السلطان المولى الرشيد، فإنني وجدت في كتاب "نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني" لصاحبه محمد بن الطيب القادري، ما يمكن أن يسلط بعض الضوء على فروسية وشجاعة هذا السلطان الذي "صادف يوما عند خروجه من الزاوية الدلائية قافلة استنجد به أهلها وطلبوا حمايته، فتجرد لقتال من أراد نهبهم، ولم يكن معه من رقيق السودان عبدان، وبيد كل واحد منهما مكحلة، فأخذ الرشيد المكحلة من يد أحدهما وحمل على اللصوص على فرسه وأصاب واحدا منهم و رَدَّ المكحلة للمملوك، وأخذ الأخرى من يد العبد الآخر ثم هجم ثانية على السُّرَّاقِ فأصاب رجلا آخر، وما رَدَّ المكحلة حتى وجد العبد الأول قد كلأ المكحلة بالبارود فأخذها منه، واستمر في هجومه على اللصوص، وفي كل مرة يصيب فيها واحدا منهم حتى أصاب منهم ثلاث عشرة، رغم أنهم في كل مرة كان يرميهم إلا ويتبعوه جماعة، لكنه كان يفرُّ منهم و يعود ليأخذ المكحلة المحشوة بالبارود من يد العبد، ويَكِرَّ على اللصوص إلى أن فَرَّ بقيتهم تاركين الخيل والمصابين أسرى"
كيف كانت تمارس ألعاب التبوريدة على عهد السلطان العلوي الحسن الآول؟
للإجابة على هذا السؤال يمكن أن نستند على مجموعة من الكتابات الوصفية التي كتبها أجانب زاروا المغرب في هذه المرحلة، فمثلا عندما نعود إلى ما كتبه باللغة الألمانية "أوسكار ليز" في كتابه "تامبوكتو رحلة إلى المغرب والصحراء والسودان "، نجد أن هذا الجيولوجي المهتم كذلك بعلم الأعراق وبالجغرافيا قد أفرد في الفصل الثامن الموسوم بـ "مراكش الحمراء" فقرة خاصة بالتبوريدة إذ كتب واصفا، تحت عنوان: "الفانتازيا" بأن هذا العرض الذي شاهده في مدينة مراكش يومي 23 و 24 فبراير 1880 ميلادية، "كان عرضا رسميا حضره عَمُّ السلطان بساحة خارج المدينة، وكان بمناسبة الإحتفال بذكرى عيد المولد النبوي، حيث بدأت الألعاب في الصباح إلى غاية الظهر، ليعود الفرسان من جديد على الساعة الخامسة، واستمروا في عروضهم إلى وقت متأخر من المساء. لقد كان الفرسان يصطفون في مجموعات تتكون من عشرة إلى عشرين فارسا، يمسكون بزمام جيادهم وهي تركض، وعند الإشارة يرتفع الإيقاع ويأخذ الفرسان في إظهار براعتهم في الّلعب ببنادق حجر الصوان، يقفون على رْكَابَاتْ الخيول، ويستديرون إلى الخلف، ثم يقفزون، ليقفوا فوق السُّرُوجِ، ويطوّحون ببنادقهم في الهواء، ليمسكوا بها مرة أخرى بكل دقة وبراعة. وعند الإشارة يطلقون البارود تحت الصيَّاح والهتاف والصهيل. وكلما أفرغت البنادق إلا وتعود مجموعة الفرسان لتنتظر دورها مرة أخرى، إنها طريقة المحاربين التي تعتمد على الكر والفر".
ولع المغاربة وشغفهم بألعاب التبوريدة:
هكذا يستمر "أوسكار ليز" في وصف عُدَّة الخيول والسُّروج، وكذلك ملابس الفرسان، وكل الإكسسوارات. ليخلص في النهاية إلى "أن المغاربة لا يمكنهم أن يشبعوا أبدا من عروض التبوريدة" والتعبير هنا بخصوص عبارة "أن يشبعوا" هي العبارة التي استعملها "أوسكار ليز" ليعبر عن ولع المغاربة وشغفهم بألعاب التبوريدة.
أثر الطريقة الناصرية في كتاب "من أفواه الرجال"
من بين الافادات التي وجدتها في كتاب "من أفواه الرجال" للعلامة المغربي محمد المختار السوسي رحمة الله عليه بخصوص ما يتعلق بالطريقة الناصرية في فنون الرماية والفروسية التقليدية بأن هذه الطريقة تعود إلى سيدي علي بن ناصر، وهي طريقة حسب المختار السوسي كانت منتشرة بين الفتيان الذين يعضون عليها بالنواجذ. وخير من كان متشبثا بها هي قبيلة أحمر، ـ إقليم اليوسفية حاليا ـ التي كان لشبانها ولع كبير بها، حيث كانوا يتعلمون الرّماية ويعلمونها، بشرط ربطها بتقوى الله والاستقامة. وبهذا فقد كانت الطريقة الناصرية تجمع بين الدين والفُتُوَّة، وقد كان سيدي أحمد بن عبد الله الكَرسيفي هو المقدم الأكبر لطائفة رماة سيدي علي بن ناصر.
إن هذه الافادة التي قدمها لنا المختار السوسي هي التي جعلتني أواصل البحث في سيرة سيدي علي بن ناصر، فوجدت أن أثره وتأثيره تجاوز بلاد أحمر إلى شيشاوة والشاوية وتيمولاي إزدار، وتيمولاي أوفلا. والحقيقة أن سيدي علي بن ناصر، وإن كان من أبرع الرماة فإنه قد أخذ أصول الرماية عن سيدي موسى الحمري الذي يشهد له بأنه أول من نشر فن الرماية ومهاراتها بمنطقة الجنوب وخصوصا هوارة. وسيدي موسى الحمري هو كذلك بدوره قد تعلم الرماية على يد سيدي "أحمد أو موسى" التَّازَرْوَالْتِي، بتزنيت وهذا ما يجعلني أطرح السؤال التالي: هل يمكن أن نعتبر الطريقة الناصرية سليلة الزاوية السملالية، وبأن كيفيات الَّلعب الأولى قد خرجت من هذه الزاوية؟
لعل السبب الرئيسي في تطوير هذه المهارات القتالية هو الرغبة في بسط النفوذ على منطقة سوس موطن الإمارة السملالية في تلك الفترة، خصوصا أن المغرب كان قد عرف بعد وفاة السلطان أحمد المنصور الذهبي صراعا عنيفا على الحكم بين أبناء المنصور الثلاثة، زيدان وأبو فارس والمأمون.
كتاب "رحلة الأسير مويط" ومهارة السلطان المولى إسماعيل في ركوب الخيل:
هذه اللوحة تعود لسنة 1693، وقد رسمها الرسام الفرنسي بيير دينيس مارتن (1663-1742) ويظهر فيها سلطان المغرب مولاي اسماعيل يمتطي صهوة جواده الذي كان يسميه "شام" واللوحة توثق استقبال السلطان لفرانسوا بيدو سفير ملك فرنسا لويس 14.
في الصورة يظهر السلطان وهو يمسك الرمح بيده اليمنى، لا أريد أن تفوتني هذه الفرصة دون أن أستشهد بما كتبه الأسير الفرنسي ـ جيرمان مويط ـ في كتابه "رحلة الأسير مويط" الذي سبق وأن قام بترجمته من الفرنسية إلى العربية الدكتور محمد حجي والدكتور محمد الأخضر، ما يهمني في هذا الباب هو الفقرة المتضمنة لعلاقة السلطان مولاي اسماعيل بركوب الخيل، خصوصا أن الأسير "مويط" سبق وأن شاهد السلطان أكثر من مرة، حيث ذكر أن السلطان كان يهتم بنفسه بصفائح الخيل وبالمسامير، بمعنى أن السلطان كان يقوم بنفسه بتغيير حَدوات حصانه. وهنا تجدر بي الاشارة إلى أنني وجدت في بعض الكتب أن حدوة الخيل عند المغاربة كانت مثلثة الشكل، لكن السلطان مولاي اسماعيل هو من أمر بجعلها على شكل هلال، أما عدد مساميرها فقد كان ستة لكي يتم تمييزها أثناء اقتفاء الأثر عن حدوة الفرسان النصارى التي كان عدد مساميرها ثمانية.
هكذا وصف الأسير مويط شجاعة السلطان مولاي إسماعيل:
أعود بعد هذه الملاحظة إلى ما كتبه الأسير "مويط" عن مولاي اسماعيل حيث نجد في الصفحة 75 من الترجمة العربية ما يلي "ومن جهة أخرى، فإنه خبير جدا بالحرب. شجاع عظيم في شخصه، يسير دائما على رأس جنوده، ويصفّفهم بنفسه، عند المعركة يكون دائما هو المهاجم الأول لأعدائه ولا يفر أبدا. وهو صبور في الشدائد". وهكذا يستمر الأسير "مويط" في الحديث عن مولاي اسماعيل إلى أن يقول: "له مهارة خاصة في ركوب الخيل، والطعن بالرمح. ولقد رأيته مرارا يمسك أحد أبنائه في ذراع، والرمح في يده الأخرى، ويعدو مسافة طويلة دون أن يكبو فرسه".