في هذا المقال، تكشف الباحثة أمال بنبراهيم عن واحدة من أبشع الجرائم الاستعمارية في تاريخ المغرب، حيث لجأت إسبانيا ما بين 1921 و1927 إلى قصف منطقة الريف بالغازات السامة المحظورة دوليًا، في خرق صارخ للقانون الدولي. وترى بنبراهيم أن هذه الانتهاكات، التي خلّفت آثارًا إنسانية وصحية وبيئية ما تزال قائمة، تُصنّف اليوم كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
كيف تقرئين فظاعات وجرائم ما ارتكبه الاستعمار الإسباني في المغرب؟
انتهاكات الاستعمار الإسباني في الفترة الممتدة ما بين (1921-1927)، خاصة في شقها المتعلق باستخدام الجيش الإسباني لغازات كيماوية سامة محظورة دوليا (من قبيل الكلوروبيكرين، الفوسجين، غاز الكلوريد، وغاز الخردل …)، ضد مدنيين مغاربة في شمال المغرب يمكن وصفها كواحدة من أبشع صور العنف الاستعماري في القرن الماضي. إذ تجاوزت منطق الاحتلال التقليدي لتتحول إلى منظومة عنف استعماري ممنهج، وظيفتها الإخضاع من خلال استخدام آليات الإبادة والعقوبات الجماعية لكسر شوكة المقاومة المحلية، خاصة بعد معركة أنوال، التي شكلت هزيمة نكراء للجيش الإسباني وحلفائه. هاته العمليات حملت في طياتها رغبة انتقامية هستيرية من المقاومة التي قوضت صورة الإمبراطورية الإسبانية كقوة استعمارية وأظهرت محدودية قوتها العسكرية.
وقد كشفت الأبحاث والدراسات الستار عن معطيات مهمة في هذا الصدد، تضمنتها وثائق عسكرية وسجلات تشهد كيف تحولت منطقة الريف في تلك الفترة إلى مختبر لتجربة الأسلحة الممنوعة في خرق صارخ للاتفاقيات الدولية التي تمنع استعمال القذائف التي تنشر الغازات الخانقة، وعلى رأسها اتفاقيتا لاهاي الأولى (1899) والثانية (1907)، التي كانت إسبانيا طرفًا فيهما، وبالتالي فقد انتهكت التزاماتها الدولية عندما قصفت شمال المغرب بالغازات. دون أن ننسى تجاهلها لروح اتفاقية فرساي لسنة 1919 التي نصت في مادتها 171 على حظر إنتاج واستيراد واستخدام الغازات الخانقة والسامة أو أي وسائل مشابهة. فبالرغم من أن التزامات هاته الاتفاقية همت ألمانيا بالدرجة الأولى إلا أنها شكلت منعطفا في القانون الدولي وكرست مبدأ عدم شرعية استعمال الغازات السامة في الحروب، وهو ما توجه بروتوكول جنيف (1925) بتعميم الحظر ليشمل جميع الدول.
المغرب ما يزال يطالب باسترجاع سبتة ومليلية واسترجاع الجزر المحتلة، وباعتذار إسبانيا عما ارتكبته من جرائم في شمال المغرب، خاصة في الريف: الغازات السامة. ما تقييمك لما حصل؟
الانتهاكات السالفة الذكر تتجاوز تداعياتها الفترة التاريخية التي ارتكبت فيها، وتصنف وفق معايير القانون الدولي بمثابة جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية. هي خرق جسيم للقانون الدولي الإنساني كونها استهدفت بشكل مباشر بالإضافة إلى المقاومين المدنيين ومن بينهم نساء وأطفال ومسنين، ونتج عنها تفشي أمراض سرطانية مزمنة وتشوهات خلقية ، كما تكبدت المنطقة أضرارا بيئية طويلة الأمد ، ناهيك عن الأثر الإنساني الذين خلفته في ذاكرة المغاربة باعتبارها ألما جماعيا.
قانونا ربما يتقادم التقاضي الجنائي، لكن الكشف عن الحقيقة والاعتراف وجبر الضرر يظل واجبا سياسيا يروم تحقيق العدالة والإنصاف التاريخي. وبالتالي فإن مطالبة المغرب باعتذار رسمي ليست مجرد مطلب سياسي أو محاولة في نبش الماضي بل هي رد للاعتبار وللكرامة الإنسانية وإنصاف لضحايا هذه الانتهاكات. وتفاعل إسبانيا مع هذا المطلب من شأنه أن يشكل خطوة نحو مصالحة حقيقية قائمة على الاعتراف وتصحيح المسار، مما يؤسس لعلاقات تقوم على الندية والاعتراف بالمسؤولية التاريخية.
في ذات السياق، لا يمكن الفصل بين المطالبة بالاعتذار على ما ارتكبته إسبانيا من انتهاكات بشمال المغرب والمطالبة باسترجاع مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، فهما متلازمان في الوعي الوطني المغربي، باعتبارهما ركيزتان أساسيتان لإحداث قطيعة مع ماض استعماري وتصفية لتركته. فنحن لا نتحدث عن نزاع حدودي بل عن قضية سيادة وهوية، وبالتالي فقضية سبتة ومليلية تظل جزءا لا يتجزأ من الأجندة التاريخية المغربية لاستكمال وحدته الترابية. إلا أن معالجة هذا الملف يجب أن تتم وفق رؤية شاملة تأخذ بعين الاعتبار طبيعة العلاقات الراهنة بين المغرب وإسبانيا، فالبلدان يجمعهما اليوم رصيد متنام من التعاون في قضايا استراتيجية بالغة الأهمية من قبيل محاربة الإرهاب، الأمن، الهجرة، الشراكات الاقتصادية بالإضافة إلى مستوى عال من التنسيق داخل الفضاء الأورو متوسطي.
ومن هذا المنظور، فإن المطالبة بالثغرين المحتلين لا تطرح بمنطق التصعيد والصدام، بل كجزء من حوار هادئ ومسؤول وبصيغ دبلوماسية عقلانية مرنة تراعي السياق الدولي والإقليمي وتأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعبين، دون التخلي عن الحقوق التاريخية والسيادية.
رسميا إسبانيا مع في ملف الصحراء، لكن أحزابها وإعلامها يتحدون ضدّ عدوّ واحد وهو المغرب ، وهو ما يتم من خلال برامجهم وصحفهم، حيث يتم تصوير المغرب في أبشع الصور. كيف تفسّرين ذلك؟
من البديهي أن التقارب بين الحكومتين المغربية والإسبانية، خاصة في الفترة الأخيرة، لا يتماشى وأجندات بعض الأحزاب والتيارات داخل إسبانيا، وهذا راجع بالأساس إلى أسباب عدة: أولها الانقسام السياسي الداخلي، فبعض الأحزاب المتشددة أو القوميون يعتبرون أن الحكومة الإسبانية قدمت تنازلات كبيرة للمغرب خاصة في ملف قضية الصحراء المغربية - وهو موقف تغذيه رواسب التاريخ الاستعماري وتغلغل لوبيات داعمة للبوليساريو -، كما أن هذه الأحزاب تميل إلى استخدام ورقة المغرب كآلية للضغط وتأجيج الرأي العام الإسباني في أوقات الأزمات الداخلية.
ناهيك أن بعض الفاعلين الحزبيين وجزءا من المجتمع المدني لا تروقهم سياسة الأمر الواقع التي بات المغرب يفرضها ودبلوماسيته القوية، وهو ما يجعلها تتمسك بسرديات تفتقد إلى المصداقية لتصوير المغرب كعدو خارجي، مستغلة الإعلام كآلية للضغط وللتسويق لمواقف عدائية ضده.
ونلاحظ أن هذا الضغط الإعلامي يتزايد بشكل خاص حينما تشتد الأزمة لدى الجزائر والجبهة الصحراوية وتواجهان تراجعا في الدعم الدولي، فتسعيان إلى الاستنجاد بداعميهما بإسبانيا، خاصة اليسار الإسباني، لصرف النظر عن فشلهما وعجزهما الداخليين، من خلال تصعيد الخطاب العدائي ضد المغرب، بهدف إعادة توجيه الرأي العام الإسباني عوض مواجهة الواقع السياسي.
وهنا يجب أن نؤكد على ضرورة بلورة المغرب لاستراتيجية إعلامية واضحة وتقوية التواجد الإعلامي المغربي الناطق باللغة الإسبانية لمواجهة استمرار إنتاج الخطاب العدائي للمغرب وتغيير الصورة النمطية السلبية عن المغرب في المخيال الإسباني.
عموما يمكن القول بأن التناقض بين الخطابين الرسمي وغير الرسمي الإسبانيين، راجع إلى أن الحكومة الإسبانية كجهاز مؤسساتي واعية بالأهمية الاستراتيجية للمغرب كشريك لا يستغنى عنه، فيما الحقل السياسي والإعلامي يستثمر في إنتاج بروباغندا عدائية انتخابية خدمة لأجندات مؤقتة وظرفية، سرعان ما تفقد بريقها.