قبل أن نتحدث عن الأثر النفسي، لننظر إلى أطفالنا وهم يغادرون بيوتنا كل صباح حاملين حقائب مدرسية أثقل منهم، مكدسة بشكل مبالغ فيه بمراجع ولوازم إضافية، ما يؤكد أن الهدف تحول من التربية إلى التجارة.
هكذا يجد الطفل نفسه فجأة خارج بيئة الروض المعتمدة على الاستكشاف العفوي، ليواجه منظومة صارمة يحكمها جرس المدرسة وصفوف منتظمة وأداء دراسي مطلوب. وعندما يبكي ويرفض الذهاب، فهو لا يمارس دلالا، بل يطلق جسده وعقله الصغير صافرة إنذار بأن الحمل قد فاق قدرته على الاحتمال. ومن المؤسف أن يقابل الآباء هذه الصرخة النفسية بالتجاهل أو، ما هو أسوأ، بالقوة والتوبيخ.
وهنا تحديدا يكمن الدور الجوهري للآباء، ليس كمنفذين لعملية إلحاق إجبارية بالمدرسة، بل كصمام أمان يخفف الضغوطات. تبدأ مهمتهم بخلق مساحة آمنة في المنزل يستطيع فيها الطفل تفريغ حمولته النفسية يوميا دون خوف، فسؤال بسيط مثل ما هو أجمل شيء حدث معك اليوم، وما هو أصعبه؟ قد يكون مفتاحا لعالمه الداخلي. ويتعزز هذا الحوار بالتعاطف الصادق مع مشاعره، حتى لو بدت غير منطقية، مما يمنحه شعورا بأنكم في صفه تقفون معه لا ضده. ويكتمل هذا الإطار الداعم ببناء نظام يومي هادئ، فالاستيقاظ دون صراخ، وتناول فطور عائلي، والمشي بهدوء نحو المدرسة، كلها تفاصيل صغيرة تصنع فارقا هائلا في استقراره النفسي.
ويمتد هذا الدور ليصل إلى شريك استراتيجي، وهو المعلم. فأستاذ السنة الأولى يجب أن يكون من طينة خاصة، لا يضيف المزيد من الأعباء المعرفية، بل يعلم الطفل كيف ينظم قدراته العقلية. هو لا يملأ رأسه بالمعلومات، بقدر ما يمنحه الأدوات اللازمة لفهمها، وأهم هذه الأدوات هي بيداغوجيا اللعب الذكية التي تحول الرياضيات إلى أحجية ممتعة، والحروف إلى أصدقاء في أغنية، واللغة إلى حكاية شيقة. هذه هي الطريقة الوحيدة لجعل المعرفة خفيفة على النفس، مرغوبة للعقل. وعلى النقيض، فإن بعض الأساليب القائمة على التلقين والصرامة المفرطة تزيد من ثقل الواجب المدرسي، وتحول المدرسة في عيون الطفل إلى مكان للعقاب لا للاكتشاف.
وراء هذه الصرامة المفرطة التي ينهجها البعض، سواء آباء أو مدرسين، يختبئ تحليل سيكولوجي أعمق يمكن فهمه عبر نظرية الإنسان المقهور. فهؤلاء هم غالبا نتاج منظومة تعليمية قهرية لم تعلمهم سوى الطاعة، وعندما يجدون أنفسهم لأول مرة في موقع سلطة أمام كائن صغير، فإنهم يمارسون عليه نفس آليات القهر التي تشربوها.
يتحول الفصل الدراسي أو البيت حينها من فضاء للتربية إلى مساحة لممارسة القوة وتعويض النقص، وتكون النتيجة كارثية، اغتيال ممنهج لفضول الطفل، وتدريبه مبكرا على الخضوع والخوف من السلطة، وهو ما ينتج مواطنا مطيعا فاقدا للقدرة على النقد والإبداع.
لكن حتى أفضل الآباء وأكفأ المعلمين قد يجدون أنفسهم عاجزين أمام نظام تعليمي يبدو أحيانا وكأنه مصمم لزيادة الأحمال لا تخفيفها. فمعضلة اكتظاظ الفصول تحول دون أي محاولة للاهتمام الفردي، وتجعل من المستحيل تطبيق أساليب التعلم النشط. كما أن غياب الفضاءات المدرسية المناسبة للعب والحركة يقيد الفاعل التربوي ويجبره على حصر العملية التعليمية في مساحة ضيقة وخانقة. وعندما ننظر إلى تجارب دولية ناجحة، كفنلندا التي تجعل من التخصص الدقيق في تربية الطفولة المبكرة شرطا أساسيا لمعلمي الصفوف الأولى، ندرك أن الأمر يتطلب فلسفة مختلفة، فلسفة ترى في الطفل مشروعا يجب رعايته، لا وعاء يجب ملؤه.
إن السنة الأولى من التعليم الابتدائي هي لحظة الحقيقة التي يتحدد فيها مسار علاقة الإنسان بالتعلم مدى الحياة. ومسؤوليتنا جميعا، كآباء ومربين وصناع قرار، هي أن نعيد التفكير في حجم الأثقال التي نضعها على أكتاف أطفالنا. يجب أن نجرؤ على تخفيف الحقائب المدرسية من اللوازم غير الضرورية، والأهم، أن نخفف عن نفوسهم الصغيرة وطأة التوقعات المبالغ فيها. فمهمتنا ليست إيصالهم إلى نهاية اليوم الدراسي منهكين، بل أن نشعل في عيونهم شرارة الفضول، تلك الشرارة التي ستبقى مضيئة لسنوات قادمة.