كتاب “أتذوق، أسمع، أرى” لعبد الصمد الكباص يعيد الاعتبار للحواس كجوهر فلسفي لتجربة الحياة

كتاب “أتذوق، أسمع، أرى” لعبد الصمد الكباص يعيد الاعتبار للحواس كجوهر فلسفي لتجربة الحياة عبد الصمد الكباص وكتابه الجديد

صدر للمفكر المغربي عبد الصمد الكباص كتاب جديد بعنوان “أتذوق، أسمع، أرى: فلسفة من أجل الحواس”. يأتي هذا العمل الصادر عن محترف أوكسيجين للنشر، امتداداً لمشروعه الفلسفي حول الجسد، حيث سبق أن اشتغل في مؤلفات سابقة على تفكيك مركزية العقل وإبراز ما يختزنه الجسد من إمكانات فلسفية، مثل كتاب “الجسد وأنثروبولوجيا الإفراط” و”الجسد والحداثة”.

الكباص اختار  أن يحرر الحواس من الغلاف الذي فرضته الفلسفة الغربية عليها، باعتبارها مجرد وسائل للإدراك أو أدوات ناقصة في خدمة العقل. ويقترح بدلاً من ذلك، النظر إليها كجوهر لتجربة الحياة نفسها: فهي التي تجعل الوجود أكثر من مجرد بقاء، وهي ما يفتح أمام الإنسان إمكان العيش في ثراء، لا في مجرد الاستمرار. منطلقا من تجربة شخصية تبدو عابرة، لكنها تختزن رؤية فلسفية: فنجان قهوة صباحي يتحول إلى سؤال عن الطعم والرائحة واللون والذاكرة التي تستحضرها. بهذا المدخل، يوضح أن الحواس تمنح للحياة لحظة اكتمال، لحظة “أبدية” مكثفة في رشفة قهوة، تتجاوز المعرفة والبرهنة إلى انتشاء حسي خالص.

 

هذا العمل الفكري الجديد للكباص  يعيد الاعتبار للحواس كمنظومة للانحيازات الفردية التي تُعلن الجسد كذات متفردة. فالانحياز عند الكباص ليس نقصاً أو ضعفاً، بل هو ما يمنح الإنسان تفضيلاته وفرادته، ويجعله أكثر من مجرد مادة عائمة بلا شكل. ومن دون هذا الانحياز، كما يؤكد، يفقد الجسد قيمته كاستثناء.

 
 

وتكمن الأهمية الكبرى لهذا العمل في إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والحيوان عبر الحواس. فبينما يعيش الحيوان بمنطق الغريزة الثابتة، يتجاوز الإنسان هذا الأفق لأنه كائن تجريبي، يعيد تشكيل ذاته باستمرار عبر أفعال الحواس. وهكذا، تتحول الحواس إلى مجال روحي جديد: السمع يفتح على البعيد واللامتناهي، النظر يخلق المكان، اللمس يبتكر مشاركة الذات مع الآخر، والتذوق يمنح لحظة خاطفة من المطلق.

ويتضح أن الكتاب لا يكتفي بالاحتفاء بالحواس، بل يقترح مشروعاً فلسفياً للتحرر من مركزية العقل، ويعيد التفكير في الحياة من خلال اليومي والملموس، في مواجهة فلسفات المعرفة الصارمة التي هيمنت لقرون. إنه بذلك يدخل في حوار ضمني مع تيارات فكرية غربية اهتمت بالجسد، مثل أعمال ميرلو-بونتي أو ميشيل سير، لكنه يقدم في الآن نفسه مقاربة مغربية/عربية تنبع من معايشة شخصية ومن حساسية ثقافية خاصة.

الجانب الجمالي حاضر أيضاً في هذا الإصدار، حيث جاء الغلاف مزداناً بلوحة للفنان والشاعر دلدار فلمز، بتصميم للفنان أكسم قاسم، ليترجم بصرياً روح الكتاب التي تحتفي بالحواس. وهو ما يجعل الإصدار نفسه تجربة جمالية بقدر ما هو مشروع فلسفي.

في النهاية، يقدم “أتذوق، أسمع، أرى” رؤية جديدة للحواس كقصيدة للجسد واحتفاء بالحياة في تفاصيلها الصغيرة، من فنجان قهوة صباحية إلى لحظة تذوق، من نغمة موسيقية إلى صورة عابرة. وهو بذلك دعوة مفتوحة إلى أن ننصت لأجسادنا كأفق للفكر، وأن نعيد الاعتبار للفلسفة بوصفها فناً للعيش، لا مجرد بحث عن الحقيقة المجردة.

عن: كش بريس