جمال الدين ريان: بين صورة الوطن وكرامة المواطن.. أي معنى للاستثمار في الملاعب؟

جمال الدين ريان: بين صورة الوطن وكرامة المواطن.. أي معنى للاستثمار في الملاعب؟ جمال الدين ريان
ليس الخلاف حول الجمال ولا حول الحداثة؛ السؤال الأعمق يتجه إلى معنى السياسة وجدواها: لمن تُبنى الصروح؟ ومن يستفيد فعلاً من رفعتها؟ ملعبٌ وافر الأناقة يمكن أن يحمل صورة المغرب إلى العالم، لكنه لا يملك أن يخفف وحده وطأة انتظارٍ في مستشفى إقليمي، أو يعبد طريقاً ترابيةً نحو مدرسة قروية، أو يزرع في قلب طفل من الرشيدية أو بوجدور أو تارودانت أو شفشاون أو الحسيمة يقيناً بأن مستقبله ليس صدفة. هنا ينهض التحدي السياسي والفلسفي معاً: كيف نُحوِّل “رمزية الإنجاز” إلى عدالة ملموسة، وكيف نفرّق بين حداثةٍ تُرى وكرامةٍ تُعاش؟

إن الدولة الحديثة لا تقاس فقط بما تشيده من معالم، بل بما توسّع من قدرات البشر على العيش الكريم. هذا جوهر ما سماه أمارتيا سن “نهج القدرات”: أن تكون السياسات العامة جسراً يرفع إمكانات الناس، لا لافتاتٍ تلمع فوق هشاشتهم. في المقابل، تسحرُ العيون نزعةُ “مجتمع المشهد” كما وصفه مفكرون معاصرون: اقتصاد سياسي للانبهار يجعل من المنشأة الضخمة معياراً للنجاح، بينما تُرحَّل أسئلة الصحة والتعليم والشغل إلى هوامش الخطاب. في هذا النمط، تُستدعى “شرعية الإنجاز” لتغطية فراغٍ في “شرعية الإدماج الاجتماعي”. والمفارقة أن شرعية الإنجاز لا تستقر إلا إذا صارت ثمارها حقاً عاماً يصل إلى أقصى القرية وأبعد الدوار.

الملعب قد يكون نقطة ارتكاز لمنظوماتٍ أوسع: سياحةٌ نوعية، سلاسل قيمة محلية، فرص شغل، نقلٌ حضري منضبط، فضاءات للشباب، وبنية رقمية. لكنه قد يتحول، إن غاب التخطيط والربط المؤسساتي، إلى “جزيرة حداثة” تحيط بها بحار اللامساواة. الفارق تصنعه السياسة العامة: كيف تُدار دورة حياة المشروع، وكيف تُلزمُهُ بخلق قيمة خارج أسواره، وكيف تُحاسَب المؤسسات على النتائج لا على الصور. والقاعدة البسيطة التي يتجاهلها السحر البصري تقول إن “تكلفة الاقتناء” ليست هي “تكلفة الملكية”: بناء منشأةٍ شيء، وتمويل تشغيلها وصيانتها واستدامتها شيء آخر. ما لم تُدمج هذه التكلفة في الميزانيات المتوسطة الأمد، وتُصاحبها حوكمةٌ شفافة ومؤشرات أداء قابلة للقياس، فإن وهج الافتتاح يخفي بذور تعثرٍ لاحق.

سياسياً، نحن أمام سؤال توزيعٍ لا سؤال نية. لا أحد يعترض على الاستثمار في الرياضة والبنية التحتية بوصفهما محرّكين للتنمية والصورة الدولية؛ الاعتراض يقع عندما تُحشر الموارد في مراكز بعينها وتُترك الأطراف لمقاديرها. هنا تستعيد العدالة معناها العملي: آليةٌ توزيعية توازن بين المركز والهامش، بين “الحدث” و“الحياة اليومية”، بين صورة البلاد وحقوق المواطنين. العدالة ليست شعاراً بل تقنية حكم: صيغٌ للتمويل المندمج إقليمياً، معادلات لتخصيص الموارد تراعي الفوارق الترابية، تعاقدات أداء بين الدولة والجماعات الترابية، وميزانيات مبرمجة بالنتائج تسمّي من يفعل ماذا ومتى وبأي كلفة وما الذي يتحقق فعلاً.

فلسفياً، يذكّرنا ابن خلدون بأن العمران البشري يزدهر بالعدل ويخرب بالجور، وأن الدولة إذا غلبت عليها الزينة على المعاش اختل ميزانها. ويذكّرنا رولز بأن أي تفاوت لا بد أن يُبرَّر بكونه يحسّن وضع الأضعف. بهذا المعنى، يُطلب من كل درهم يُنفق على الملعب أن يبرهن، بحسابٍ بارد لا بشغفٍ حار، كيف سيُحسّن حياة من هم خارج المدرجات: مزيداً من الأسرة في المستشفى الجهوي، أقساماً أقل اكتظاظاً، طرقاً آمنة، ومهارات جديدة لدى الشباب. إذا لم يحدث ذلك، يصبح الملعب مرآةً نرى فيها أنفسنا كما نودّ أن نكون، لا كما نحن.

الطريق إلى تحويل الرمز إلى منفعة يمر عبر جملة شروط عملية. أولها ربطُ المشروع الرياضي بمنظومة تشغيل محلية: نسبٌ ملزمة من المشتريات من المقاولات الصغرى والمتوسطة في الجهة، وبرامج تدريبٍ للشباب تؤدي إلى شهادات معترف بها، وصيغُ تمويلٍ مبتكرة تشرك رأس المال الخاص دون خصخصة الفضاء العام. ثانيها الشفافية: نشرُ كلفة المشروع كاملة من الدراسات إلى الصيانة، وإتاحةُ العقود للرقابة العمومية، واعتمادُ بواباتٍ مفتوحة للبيانات تُمكّن المواطنين والباحثين من تتبع المؤشرات. ثالثها الاستدامة: خطة تشغيل خضراء تقلّص البصمة البيئية وتضمن كلفة طاقةٍ معقولة، وجدولة صيانةٍ مانعة للأعطال لا معالِجة لها فقط. رابعها التعدد الوظيفي: أن يعمل الملعب نهاراً كحاضنةٍ للرياضة المدرسية والجامعية، ومخرناً للتطوع المجتمعي، ومركزاً للفعاليات الثقافية المحلية، لا أن يظل جزيرة نائية تُضاء فقط في أيام المباريات الكبرى. خامسها المرآة المعكوسة: مؤشرات واضحة لقياس الأثر الاجتماعي—عدد فرص الشغل المستدامة لا المؤقتة، نسبة الاندماج الترابي للموردين المحليين، التحسن في ولوج الخدمات الأساسية ضمن محيط المشروع، وانخفاض الهدر المدرسي بفضل النقل والفضاءات.

هنا يصبح النقاش الديمقراطي ضرورياً: مشاركة المواطنين في تحديد الأولويات ليست زخرفة إجرائية، بل شرط عقلانية الإنفاق العام. حين تُبنى المشاريع مع الناس لا لهم فقط، تُحاصَر أخطاء التقدير ويقوى الحسّ بالملكية المشتركة. وعندما تُدار الميزانيات بمنطق “العقد الاجتماعي”—تعهدات واضحة متبادلة—يتحول السؤال من: “لماذا بنينا ملعباً؟” إلى: “ما الذي التزمنا بتحقيقه به، وما الذي تحقق فعلاً؟”. عندئذٍ لا يتهددنا مرض “التضخم الرمزي”، حيث تنمو الرموز أسرع من الحقائق، وتتحول الدولة إلى مُنتِج مؤثراتٍ بصرية بدل أن تكون ضامناً للمساواة في الفرص.

لا ينبغي أيضاً أن نسقط في ثنائيةٍ مريحة زائفة: إما الملاعب أو المستشفيات، إما الصورة أو الجوهر. الصواب أن نسأل عن التصميم المؤسسي الذي يجعل الاستثمار الرياضي رافعةً للصحة والتعليم. يمكن، مثلاً، ربط ريع الفعاليات الكبرى بصناديق جهوية للصحة المدرسية، أو اشتراط مساهماتٍ سنوية ثابتة من المستغِلين التجاريين للمنشأة لتمويل النقل القروي للتلاميذ، أو عقد شراكاتٍ بين الأكاديميات الرياضية والمعاهد التقنية تُفضي إلى شهاداتٍ مهنية مطلوبة في سوق الشغل. مثل هذه الجسور هي التي تقنع المواطن بأن الفرح العام لا يُموَّل من جيبه فقط، بل يعود إليه بما يقاس.

في العمق، القضية ليست ملعباً بعينه، بل وجهةُ بلدٍ يوازن بين بريق الحاضر واستحقاقات المستقبل. المغرب الذي نريده ليس ضد الصورة، لكنه ضد أن تُختزل الحياة في الصورة. نريده بلداً يقيس نجاحه بقدرة أبنائه على الحلم والعمل، بمدى اتساع طيف الكرامة بحيث يشمل البعيد قبل القريب، وبأن يرى كل مواطنٍ نفسه في المرآة العامة لا مجرد متفرجٍ في صفوفٍ بعيدة. حين تُصمَّم السياسات على هذا المبدأ، يصبح كل ملعب جزءاً من منظومة المعنى: فضاءً يضاعف الفرح لا يسرق الموارد من الألم، ويضيف إلى رأس المال الرمزي رأس مالٍ بشرياً واجتماعياً واقتصادياً.

جمال الملعب لا يعوّض ألم مريض، لكنه قد يخففه إذا صار مصدراً دائماً لتمويل الصحة الأولية. لا يغني عن حلم طفل بطريقٍ نحو مدرسته، لكنه قد يمهّدها إذا ارتبطت عقوده بنسبٍ ملزمة للبنيات التحتية في محيطه. وعند تلك اللحظة—لحظة انتقال الرمز إلى حق—سيشعر المغربي في الرشيدية وبوجدور وتارودانت وشفشاون والحسيمة أن الملعب جزء من فرحته وأمله ومستقبله، لا لأن صورته جميلة فحسب، بل لأن أثره عادلٌ وملموس. تلك هي السياسة حين تُفهم على حقيقتها: فن ترتيب الممكن على مقياس الكرامة، وبناء الإنسان قبل الحجر، ثم بناء الحجر ليخدم الإنسان.