عبد الرفيع حمضي: درس الأمير

عبد الرفيع حمضي: درس الأمير عبد الرفيع حمضي
في الرباط، كان تدشين مركب مولاي عبد الله حدثاً رياضياً بارزاً. وقد يبدو المشهد عادياً في سياق المشاريع  التي تشهدها بلادنا، لولا تلك اللمسة المختلفة التي منحته طعماً آخر،لحظة وقف فيها ولي العهد الأمير مولاي الحسن، بابتسامة صافية ،يحيّي المستخدمين الذين أسهموا في تشييد الصرح. صفق لهم مرات متتالية، فلامست ابتسامته محياهم وأدخلت عليهم شعوراً غامراً بالاعتزاز. فكانت رسالة شكر بليغة، اختصرت في بساطتها أسمى معاني التقدير.

هذه اللحظة الإنسانية أعادت إلى ذاكرتي سنوات قضيتها في عالم المقاولة، داخل المغرب وخارجه، في مشاريع كبرى من طرق سيارة ومنشآت استراتيجية. كنا نعمل ليل نهار، نحول أرضاً قاحلة أو فضاء مهملاً إلى مشروع يغيّر وجه المكان. ومع ذلك، عند لحظة التدشين، كان الاعتياد أن يقف الوزير ويتصدر المسؤول الكبير المشهد، فيما يحتفظ بالأطر من مهندسين وإداريين وتقنيين  في الظل، اما العمال يكونون  إما غادروا إلى ورش اخر او عطالة محتملة  دون أن يصفق لهم احد او يبتسم لهم .

ما كان بإمكاني أن أتجاهل هذه المفارقة أو أتقبّلها يوماً. فالمشاريع لا تُنجز بقرارات مكتبية فقط، بل بعرق السواعد وسهر العقول. 
قد ينظر إلى تصفيق الأمير لعشرات المستخدمين باعتباره فعلاً بروتوكولياً فقط ،لكنه في العمق ممارسة تحمل قيمة معنوية هائلة. إنها لحظة تمنح الأجير شعوراً بأن مجهوده لم يذهب سدى، وأنه جزء أصيل من إنجاز وطني سيبقى شاهداً لعقود. والاعتراف هنا لا يخلق الرضا الفردي فقط، بل يزرع طاقة جديدة في مسارات العمل المقبلة، ويغرس الانتماء في نفوس المشاركين.

لا زلت كلما سافرت على الطريق السيار مكناس – فاس إلا وأحكي لإبنَتَي منال ومها، أو لأي رفيق سفر، أن هذا المقطع من الطريق نحن من أنجزناه. أكرر ذلك دون ملل منذ ثلاثين سنة، وأنا أعلم أنهم يعرفون القصة، لكن الاعتزاز بالإنجاز لا يشيخ أبداً.

في علم التدبير الحديث، يُعتبر الاعتراف وإشراك الأفراد ركناً أساسياً في نجاح المشاريع. فالعامل أو الموظف الذي يشعر بأنه مرئي ومقدَّر يضاعف التزامه، ويحوّل إنجازه الفردي إلى التزام جماعي يضمن استدامة النجاح. وهنا أستحضر قول بيتر دراكر، أب الإدارة الحديثة: “لا شيء يُحفّز الناس بقدر أن يُقال لهم شكراً.”

في هذا السياق، كلنا نتذكر الرئيس الأمريكي باراك أوباما، حين زار نيو أورليانز بعد إعصار كاترينا. ترك المنصة جانباً، واتجه نحو العمال الذين أعادوا بناء البيوت، وصافحهم واحداً واحداً قائلاً أمام الكاميرات: “أنتم الأبطال الحقيقيون.” لقد كان ذلك الموقف العابر أبلغ من أي خطاب سياسي، لأنه أعاد الاعتبار إلى من صنعوا الإنجاز بعرقهم وصبرهم، لا بمجرد التوقيع على القرارات.

ما قام به الأمير مولاي الحسن لم يكن مجرد لحظة إنسانية عابرة، بل درساً في التدبير العام ببلادنا. النجاح لا يصنعه الوزير وحده ولا المدير العام بمفرده، بل هو ثمرة عمل جماعي يشارك فيه الصغير والكبير، المنفذ والمخطط، العامل والمفكر.

إن ترسيخ هذه الثقافة داخل إداراتنا ومؤسساتنا العمومية والخاصة سيحوّل الإنجاز حتما ،من ملكية فردية ـ عقلية “أنا وحدي نضوي  البلاد” ـ إلى قيمة جماعية حديثة، تعترف بأن كل نجاح هو ثمرة تراكم جهود الجميع.
 
في النهاية، ان المغرب الذي نبنيه ، بقدر ما يقوم على الهندسة والتمويل والتشييد، بقدر ما يستحق أن يقوم على ثقافة الاعتراف كقيمة تأسيسية تبني الأوطان. 
إنه درس الأمير.