في كل المجتمعات، كان المثقف تاريخيًا يشكّل ضمير الأمة وصوتها النقدي، يزعج السلطة، يوقظ المجتمع، ويرسم ملامح المستقبل غير أنّ المشهد الراهن، خاصة في السياقات العربية، يكشف عن تراجع حاد في حضور المثقف داخل الساحة العمومية، سواء في المجال السياسي أو الجمعوي أو المدني. هذا التواري لا يُعتبر مجرد غياب فردي، بل هو مؤشر على أزمة عميقة مست القيم والأدوار والفضاءات التي كان يحتلها المثقف، تاركًا فراغًا ملأته أصوات أخرى أقل عمقًا وأكثر ضجيجًا.
تراجع حضور المثقف ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة تراكمات بنيوية متعددة الأبعاد المثقف ليس مجرد حامل للمعرفة الأكاديمية أو منتج للنصوص النظرية، بل هو فاعل اجتماعي نقدي، يُنتظر منه أن يربط بين الفكر والممارسة، وأن يساهم في خلق النقاش العمومي حول القضايا المصيرية: الديمقراطية، الحرية، العدالة الاجتماعية، الهوية، الحداثة.
وفي ارتباطه بالمجتمع المدني، مثّل المثقف على الدوام العقل المؤطر والمرجع الذي يمنح الحركات الاجتماعية والجمعيات بعدًا فكريًا ورؤية إستراتيجية، بدل الاقتصار على التدبير اليومي أو الاستجابة للتمويلات الظرفية.
حين يضيق الفضاء العمومي… يصمت المثقف
لم يعد الفضاء العمومي، كما حلم به جيل الرواد، ساحةً حرة للنقاش وتبادل الأفكار في زمن تتوسع فيه الرقابة وتتراكم التشريعات المقيِّدة، يجد المثقف نفسه أمام جدار سميك يفصل بينه وبين جمهوره قوانين فضفاضة تُلوّح بعبارات مثل "الإخلال بالنظام العام" أو "المساس بالثوابت"، وأجهزة رقابة مباشرة أو غير مرئية، كلها جعلت من الكلام مسؤولية ثقيلة قد تتحول بسهولة إلى تهمة.
هكذا، أصبح المثقف يتأرجح بين خيارين: إمّا الصمت والانسحاب من المجال العام، وإمّا ممارسة "الرقابة الذاتية" قبل أن يتدخل الرقيب الرسمي. بعضهم اختار الهجرة، بحثًا عن فضاء أرحب للتعبير، وآخرون قبلوا بدور تقني محدود، بعيد عن النقد والجرأة التي ميّزت أجيالاً سابقة.
النتيجة واضحة: فراغ مخيف في النقاش العمومي. بدل أن يتصدر المثقف واجهة النقاش حول الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، حلّ مكانه خطاب شعبوي أو محتوى سطحي يملأ الشاشات والمنصات الرقمية دون أن يقدم بدائل حقيقية.
إن تضييق الفضاء العمومي لا يعني فقط تكميم الأفواه، بل هو تقييد لقدرة المجتمع على إنتاج المعنى والأفق. فحين يُجبر المثقف على الصمت، يخسر المجتمع ضميره النقدي، وتُترك الساحة للسطحي والعابر.
المثقف بين النقد والاحتواء
من أخطر ما أصاب المشهد الثقافي العربي في العقود الأخيرة هو استراتيجية الاحتواء التي مارستها السلطة تجاه بعض المثقفين فبدل المواجهة المباشرة مع الفكر النقدي، اختارت السلطة أحيانًا أسلوبًا أكثر نعومة وفاعلية فتح أبواب المناصب والامتيازات أمام المثقف، وتحويله من صوت مزعج إلى شريك صامت أو مبرِّر.
هكذا وجدنا أسماء لامعة في ميادين الفكر والأدب تنتقل فجأة من مقاعد المعارضة إلى مكاتب المسؤولية،من كتّاب نقديين إلى أصوات تُمجّد الخطاب الرسمي والنتيجة كانت واضحة فقدان الاستقلالية النقدية وانطفاء ألوهج
الاحتواء لا يتم فقط عبر المناصب السياسية أو الإدارية، بل أيضًا عبر الامتيازات غير المباشرة منح جوائز، تيسير النشر، فتح أبواب الإعلام، أو حتى توفير حماية رمزية هذه الإغراءات قد تبدو بسيطة، لكنها كافية لإفراغ الخطاب الفكري من حدّته، وتحويل المثقف من ضمير المجتمع إلى زينة السلطة.
المفارقة أن هذا الوضع لا يضر بالمثقف وحده، بل يضر بالمجتمع كله. فحين يخسر المواطن مثقفيه النقديين، يضيع البوصلة الفكرية، وتبقى الساحة خالية إلا من الخطابات الشعبوية أو الدعائية.
إن استقلالية المثقف شرطً لوجود فضاء عمومي صحي. والمثقف الذي يقبل بالاحتواء يخسر شرعيته الرمزية، مهما كسب من امتيازات مادية أو مكانة اجتماعية. فالمجتمعات لا تتذكر المثقف الذي صمت، بل المثقف الذي قاوم.
السياسة بلا أفق… والمثقف الغائب
أحد أبرز أسباب تواري المثقف عن المشهد العمومي هو انهيار الثقة في السياسة فالسياسة التي كانت يومًا ما فضاءً للتفكير في المستقبل وصياغة مشاريع مجتمعية كبرى، تحولت اليوم إلى ساحة صراعات انتخابية ضيقة، يتنافس فيها الفاعلون على المقاعد أكثر مما يتنافسون على الأفكار.
هذا الانزياح جعل السياسة أقرب إلى إدارة تقنية للملفات اليومية منه إلى مشروع جماعي للتغيير. فالنقاشات التي كان يُفترض أن تدور حول قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة، انحسرت في تفاصيل إجرائية أو وعود انتخابية موسمية ومع هذا الانغلاق، لم يعد أمام المثقف سوى خيارين: إما الابتعاد عن حلبة سياسية فقدت معناها، أو الانزلاق نحو دور استشاري محدود في خدمة إدارة بلا أفق
المشكلة أن غياب الأفق الفكري في السياسة يخلق فراغًا قاتلًا فحين تختزل السياسة في الحسابات الانتخابية، تضيع الأسئلة الكبرى التي تحتاجها المجتمعات: أي نموذج للتنمية؟ أي معنى للمواطنة؟ كيف نواجه تحديات العصر من بطالة وبيئة ورقمنة؟ هذه الأسئلة هي بالضبط المجال الطبيعي للمثقف، وحين يغيب، تغيب الرؤية، ويبقى التدبير اليومي بلا روح.
إن انهيار الثقة في السياسة لا يضعف فقط صورة السياسي، بل يضعف أيضًا علاقة المثقف بالمجتمع. فالمثقف الذي كان وسيطًا بين القاعدة الشعبية والفضاء السياسي يجد نفسه اليوم بلا مخاطب حقيقي، وبلا فضاء يستوعب مقترحاته وهنا يكمن جوهر الأزمة سياسة بلا فكر، ومثقف بلا منصة
لم يعد المثقف، في زمننا الراهن، يحظى بالمكانة الرمزية التي ميّزت حضوره في العقود السابقة فذلك "المثقف العضوي" أو "المثقف العمومي" الذي كان يتصدر النقاشات الكبرى حول الحرية والعدالة والهوية، تراجع إلى الصفوف الخلفية، تاركًا المجال لفاعلين جدد أقل عمقًا وأكثر قدرة على ملء الفضاء الرقمي بضجيج سهل الاستهلاك يتجلى هذا التراجع أولًا في صعود الإعلام الرقمي والمؤثرين، حيث أصبحت الكلمة السريعة والصورة الخاطفة أكثر تأثيرًا من المقالات والدراسات العميقة. ومع تحوّل القيم نحو الفردانية والاستهلاك، بدا الخطاب الفكري وكأنه بعيد عن اهتمامات الناس المباشرة، التي باتت محكومة بالسرعة والمنفعة العاجلة. وزاد من الأزمة غياب فضاءات النقاش فقد أُغلقت أو ضعفت المنابر الثقافية والندوات الفكرية التي كانت تشكّل جسرًا بين المثقف والجمهور، ليتحوّل النقاش العمومي إلى مساحة شاغرة إلى جانب ذلك، لا يمكن تجاهل البُعد الاقتصادي فـهشاشة الوضع المعيشي للمثقف جعلته ينشغل بتأمين ضروريات الحياة بدل الانخراط الكلّي في قضايا المجتمع. كما أن ضعف سوق الكتاب والثقافة أفقد الإنتاج الفكري قيمته الاقتصادية، فلم يعد الكتاب أو البحث العلمي قادرًا على تأمين حياة كريمة لصاحبه وهكذا، أصبح الكثير من المثقفين يعيشون على هامش السوق والاعتراف الرمزي معًا.
يزيد الوضع تعقيدًا ما يشهده المجتمع المدني من بيروقراطية داخلية حولت بعض الجمعيات إلى هياكل إدارية بلا نفس فكري. أضف إلى ذلك التبعية للتمويل الخارجي، الذي يفرض مشاريع تقنية محدودة الأفق، غالبًا منفصلة عن القضايا الفكرية الكبرى التي تُعنى بمستقبل المجتمع. هذا الواقع جعل المثقف يجد نفسه خارج حسابات المجتمع المدني الذي كان يُفترض أن يشكل رافعة لأفكاره هذا من جهة ومن جهة أخرى، عرفت الجامعة، التي كانت مختبرًا طبيعيًا لإنتاج الفكر النقدي، تراجعًا في أدوارها التنويرية، إذ غلب عليها الطابع التقني والإداري على حساب الحرية الأكاديمية كما أن هيمنة الخطاب الإعلامي السطحي جعلت من العمق والتحليل أمرًا ثانويًا، مقابل حضور متزايد للمحتوى الخفيف والسريع. ومع صعود الرقمنة، ازدادت قوة الكلمة اللحظية والمؤثر الآني، فيما تهمّش المثقف العميق الذي يحتاج إلى وقت ومسافة لبلورة أفكاره.
إن تراجع المكانة الرمزية للمثقف ليس نتيجة خطأ فردي أو عزوف شخصي، بل هو حصيلة تحولات اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، ومعرفية متداخلة. وفي قلب هذه التحولات، ضاع صوت المثقف بين ضغوط المعيشة، انحسار المنابر، وبروز فاعلين جدد يسيطرون على الفضاء العمومي بخطاب سريع الزوال.
ومع ذلك، يبقى السؤال الملحّ: هل يمكن استعادة المثقف لرمزيته عبر تجديد أدواته وخطابه ليلتقي من جديد مع هموم الناس، أم أن زمنه قد انتهى وترك الساحة نهائيًا لسطوة "المؤثرين"؟
نتائج هذا التواري
إن غياب المثقف عن الفضاء العمومي لم يكن حدثًا عابرًا، بل ترك وراءه فراغًا خطيرًا انعكس مباشرة على طبيعة النقاش المجتمعي ومسار الفعل المدني. فبدون المثقف، الذي كان يُشعل الأسئلة الكبرى ويؤطر الرأي العام بفكر نقدي واستشرافي، انحدر مستوى النقاش العمومي ليقتصر على قضايا تقنية ضيقة أو سجالات شعبوية سطحية، بعيدة عن هموم المجتمع العميقة وأسئلته الوجودية.
هذا الغياب جعل المجتمع المدني يفقد رافعة فكرية أساسية فالحركات الجمعوية والنقابية التي كانت في حاجة إلى فكر يؤطرها ورؤية تحدد أهدافها، أصبحت تشتغل في الغالب بمنطق ردود الأفعال أو وفق أجندات ممولة، بلا مشروع شامل يربط نضالاتها بحلم مجتمعي طويل الأمد.
وفي ظل هذا الفراغ صعدت بدائل هشة؛ أبرزها المؤثرون الرقميون الذين يمتلكون قدرة على التعبئة اللحظية، لكنهم يفتقرون إلى العمق النظري والقدرة على إنتاج رؤية استراتيجية كما انتشرت الخطابات الشعبوية التي تُلهب المشاعر لكنها لا تقدم حلولًا أو تصورات واقعية، وهو ما زاد من هشاشة الفضاء العمومي.
الأخطر من ذلك هو انهيار الحلم الجماعي، أو ما يسميه بعض المفكرين سقف الانتظار. فحين يغيب المثقف، يغيب الأفق الذي يُلهم المجتمع للتجديد والتغيير. وتصبح الحياة العامة بلا بوصلة فكرية، حيث يُدار المجتمع بمنطق التدبير اليومي لا بمنطق الرؤية المستقبلية
إن هذا الفراغ الذي خلّفه المثقف الغائب لا يُقاس فقط في غياب الأصوات النقدية، بل في خسارة المجتمع لقدرته على الحلم، أي على صياغة معنى جامع يتجاوز اللحظة الراهنة إلى أفق أرحب. وهذا أخطر ما يمكن أن يصيب أي مجتمع
رهانات عودة المثقف
إن الحاجة إلى عودة المثقف اليوم ليست ترفًا فكريًا ولا ترفًا نخبوياً، بل ضرورة مجتمعية لإعادة إحياء الفضاء العمومي الذي أصابه الخواء فالمجتمع في لحظاته الحرجة يحتاج إلى أصوات قادرة على إنتاج المعنى، وطرح الأسئلة، وبناء الأفق، وهي أدوار لا يمكن أن يضطلع بها سوى المثقف النقدي المستقل.
الرهان الأساسي يتمثل في إعادة الاعتبار للمثقف العمومي؛ المثقف المنخرط في قضايا الناس اليومية، الذي ينزل من برجه العاجي ويتواصل مع المجتمع وهمومه، بدل المثقف النخبوي المعزول الذي يكتفي بالخطاب الأكاديمي أو التنظير البارد لكن هذا المسار يمر عبر جملة من الشروط العملية.
تعزيز الجسور مع المجتمع المدني، من خلال المشاركة الفاعلة في النقاشات العامة، تأطير المبادرات المواطِنة، وتقديم بدائل فكرية قادرة على الارتقاء بمطالب المجتمع من ردود أفعال جزئية إلى مشروع جماعي متكامل.
إحياء الفضاءات الثقافية التي شكلت في مراحل سابقة منصات للنقاش الحر، من جامعة وإعلام جاد وجمعيات ثقافية، بما يضمن استعادة الثقافة دورها كقوة اقتراحية ونقدية.
استثمار الرقمنة بذكاء، ليس بالانسحاب من المجال الافتراضي بدعوى تفاهته، بل عبر تحويله إلى أداة لبث خطاب نقدي عميق ومؤثر يتجاوز الضجيج السطحي ويعيد للكلمة قيمتها.
إن المجتمع الذي يُقصي مثقفيه أو يتركهم على هامش الهامش، إنما يحكم على نفسه بالعيش في فراغ فكري وقيمي. أما المجتمع الذي يستعيد مثقفيه في لحظة الأزمة، فهو مجتمع يعلن رغبته في التجدد والبحث عن أفق مشترك. ومن هنا، فإن عودة المثقف ليست خيارًا ثانويًا، بل شرطًا من شروط النهضة الممكنة.
خاتمة:
إن تواري المثقف عن المشهد السياسي والجمعوي ليس مجرد مسألة شخصية، بل هو أزمة بنيوية تمس طبيعة السلطة، بنية المجتمع المدني، منظومة القيم، ووضع الثقافة. وغياب المثقف يعني غياب الضمير النقدي القادر على طرح الأسئلة المقلقة، وصياغة أفق جماعي جديد لكن في المقابل، يمكن أن يشكل هذا التواري فرصة لإعادة التفكير في دور المثقف، بعيدًا عن النخبوية والعزلة، نحو نموذج المثقف العمومي الذي يدمج الفكر بالممارسة، ويعيد للمجتمع مدنيًا وسياسيًا حيويته.