جمال الدين ريان: من يعرقل حقوق مغاربة العالم؟ المنظومة السياسية أولعبة التحكم؟

جمال الدين ريان: من يعرقل حقوق مغاربة العالم؟ المنظومة السياسية أولعبة التحكم؟ جمال الدين ريان
منذ لحظة إقرار دستور 2011، بدا وكأن المغرب يدخل مرحلة جديدة من التعاقد السياسي، حيث تمت دسترة حقوق ومكتسبات مهمة لمغاربة العالم، خاصة في ما يتعلق بالتمثيلية والمشاركة في الحياة السياسية. لكن، بعد مرور أكثر من عقد، يتضح أن هذه النصوص الجميلة بقيت مجرد واجهة لخطاب رسمي يُسوّق في المناسبات، دون أن تتحول إلى واقع فعلي. هنا يطرح السؤال نفسه بحدة: لماذا جُمّد هذا الورش؟ ومن المستفيد من إبقاء ملايين المغاربة بالخارج خارج دائرة القرار السياسي؟
 
الجواب لا يختزل في مشكل تقني أو لوجستي كما تحاول السلطة تبريره. الحقيقة أن ما يحدث هو تعطيل إرادي ومقصود، تشترك فيه أطراف متعددة لكنها تلتقي عند مصلحة واحدة: استمرار لعبة التحكم. فالمنظومة السياسية المغربية بطبيعتها قائمة على توزيع مدروس للأدوار، على هندسة المشهد بما يضمن استمرار التوازنات الداخلية. إدخال عنصر جديد مثل الجالية، التي تحمل وعياً سياسياً مغايراً ومتجذراً في تجارب ديمقراطية خارجية، قد يخلط الأوراق ويصعب التحكم فيه. لهذا، يتم التعامل مع مشاركة مغاربة العالم كخطر محتمل لا كحق دستوري.
 
النخب السياسية الحزبية بدورها جزء من هذه اللعبة. فهي عاجزة، ضعيفة الكفاءة، وتفتقر إلى الشجاعة السياسية. جلّها يعيش على فتات السلطة، ويتشبث بمقاعده الضيقة. هذه الأحزاب ترى في انفتاح المشهد على ملايين الناخبين بالخارج تهديداً لوجودها، لأنها تدرك أن ولاءات الجالية لا تُشترى بالأساليب التقليدية ولا تتحكم فيها شبكات الزبونية والمحسوبية. الناخب المغربي في أوروبا أو أمريكا أو كندا أو الخليج ليس ساذجاً، بل يقيس التجارب ويقارن، ويعرف معنى المحاسبة والشفافية. وهذا ما يرعب الأحزاب المتكلسة التي لا تملك أي مشروع سياسي حقيقي، سوى التكيف مع حدود اللعبة التي يضعها النظام.
 
أما البيروقراطية، فهي الوجه الآخر للتحكم. إدارة متضخمة، بطيئة، بلا كفاءة، لكنها بارعة في استخدام التعقيدات التقنية كذريعة لتبرير الإقصاء. تسمعهم يتحدثون عن صعوبة ضبط اللوائح أو ضمان نزاهة الانتخابات بالخارج، وكأن المغرب بلد لم يعرف بعد الوسائل الحديثة للتصويت، أو كأن الديمقراطيات الأخرى لم تواجه نفس التحديات. لكن خلف هذه الحجج هناك منطق بسيط: التخوف من فقدان السيطرة. فالسلطة الإدارية اعتادت أن تُشرف وتُوجّه وتُدير العملية الانتخابية في الداخل بطريقة تضمن نتائج محسوبة سلفاً. أما الخارج، فمساحة أوسع، أقل قابلية للضبط، وأكثر عرضة للمفاجآت. وهنا يكمن الخطر بالنسبة لمن يريد انتخابات على المقاس.
 
لا يمكن إغفال المصالح الاقتصادية التي تستفيد من بقاء الجالية في خانة الممول الصامت. مليارات الدراهم التي يرسلها المهاجرون سنوياً أصبحت ركيزة للاقتصاد الوطني، وأحد أهم مصادر العملة الصعبة. لكن هذه القوة المالية، لو تحولت إلى قوة سياسية، فإنها ستهدد شبكات الفساد واللوبيات التي تعيش على الريع. لهذا يُفضل أن يبقى المهاجر مجرد “محفظة مالية” يضخّ الأموال دون أن يطالب بحق تقرير مصير وطنه. إن اختزال ملايين المواطنين في دور اقتصادي فقط هو إهانة مزدوجة: إهانة لكرامتهم السياسية، وإهانة لمعنى المواطنة نفسه.
 
في العمق، ما يكشفه تعطيل دسترة حقوق مغاربة العالم هو أن الدستور نفسه كان مجرد أداة لامتصاص الغضب الاجتماعي في 2011، لا عقداً سياسياً ملزماً. لقد وُضع النص ليُجمّل صورة المنظومة في الخارج، وليقدّم واجهة إصلاحية بعد الحراك، لكن لم تكن هناك نية حقيقية لتطبيقه. فما قيمة فصول تُعطل لعقد كامل؟ وما جدوى نصوص تُرفع في الخطابات بينما تُجهض في الممارسة؟ إن الجواب واضح: المنظومة السياسية المغربية لا تزال أسيرة عقلية التحكم السلطوي، التي ترى في أي انفتاح ديمقراطي تهديداً لا فرصة.
 
هكذا يتقاطع ضعف الأحزاب، وعجز البيروقراطية، ومصالح اللوبيات الاقتصادية، مع إرادة المنظومة في ضبط المشهد وفق قواعدها الخاصة. النتيجة هي إقصاء ممنهج للجالية، وتهميش متواصل لملايين المغاربة الذين يُفترض أن يشكلوا امتداداً طبيعياً للوطن. إنها سياسة تقوم على ازدواجية فاضحة: نحتاج أموالكم لكن لا نريد أصواتكم.
 
إن الاستمرار في هذه اللعبة ليس مجرد خطأ سياسي، بل هو جريمة في حق الديمقراطية نفسها. لأن دستوراً يُفرغ من محتواه يتحول إلى ديكور، ولأن وطنًا يُقصي أبناءه يتحول إلى كيان مغلق يهاب مواطنيه بدل أن يستند إليهم.
 
والسؤال الجارح الذي يبقى معلقاً: إلى متى ستظل المنظومة تراهن على شراء الوقت بتعطيل الإصلاحات، وإلى متى سيُعامل مغاربة العالم كمصدر عملة فقط، لا كمواطنين كاملي الحقوق؟ إن الجواب على هذا السؤال سيحدد ما إذا كان المغرب يريد حقاً أن يكون دولة مواطنة، أم مجرد سلطة تتحكم في شعبها وتقصي نصفه الآخر لأنه يعيش خارج الحدود...